لمحة في فقه الأولويات وآثاره في بعض أحكام الحج

لمحة في فقه الأولويات وآثاره في بعض أحكام الحج

 مقالة بعنوان

( لمحة في فقه الأولويات وآثاره في بعض أحكام الحج )

  أ.د محمد  نبهان إبراهيم رحيم الهيتي

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحابته الغر الميامين.

وبعد: فإذا كان دين الاسلام يحث أتباعه على التزود بأنواع العبادات والاعمال الصالحات والاكثار من فعل الخيرات واجتناب المنكرات والتنافس في إتيان القربات من أجل الوصول إلى مرضاة الله عز وجل والفوز بالجنات، فإن ديننا في الوقت نفسه يهذب تلك الأعمال ويشذب ما يقوم به المسلم من أصناف العبادات؛ حتى يجلي عنها سمة الغرور والمباهاة والتعالي على الناس الذي من شأنه أن يبطل أجر ما يفعله من تلك القربات ولتكون خالصة لله عز وجل.

ومن أهم طرق وسبل تهذيب أعمالنا التعبدية التي سلكها الاسلام في هذه الحياة هو أنه جعل أولويات يجب على المسلم أن يقدمها على غيرها من باقي أعماله المكلف بها من قبل الشارع.

فالتكاليف الشرعية والأعمال التعبدية والأحكام الشرعية متنوعة وعلى درجات مختلفة، فمنها الواجب، ومنها الفرض، والمندوب، والحرام والمستحب؛ لذلك فنحن نحتاج إلى فقه الأولويات لوضع الأعمال والتكاليف موضعها المناسب وترتيب الأحكام الموافقة للأفعال، فهو فقه ضروري لصحة العبادات وسلامة المعاملات، يقول ربنا سبحانه وتعالى: ?أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ* الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ?[1].

وهذا دليل على اختلاف بين درجة القاعد في البيت الحرام متفرغا للعبادة وبين درجة المجاهد في سبيل الله.

لذلك: فإن الشارع أعطى فقه الأولويات أهميةً كبيرةً كاهتمامه بباقي أنواع الفقه الأخرى كفقه المقاصد، وفقه الواقع، وفقه السنن، وفقه الموازنات.. وغيرها، ومراعاة الشريعة الاسلامية لهذا النوع إنما للوقوف على مراتب الأعمال، وأيها يجب أن يُقَدم، وأيها يجب أن يُؤَخر، وإيضاح حكم كل منها من حيث الوجوب والحرمة والاستحباب، فبه نعرف أياً من الاحكام واجبٌ وأيها محرم، وما هو المستحب منها، وبالتالي هل من الممكن تقديم أمرٍ لكونه مهماً على أمرٍ بدرجته يمكن تأخيره ؟.

والحقيقة أن الأخذ والعمل بهذا النوع من الفقه في ظروفنا الراهنة أمرٌ ضروريٌ؛ وذلك للتخبط الكبير الذي يعيشه المسلمون في اختلال الموازين الشرعية بين ما يقدم من أحكام وما يؤخر، وما هو المهم منها وما هو الأهم، تبعاً لجلب المصالح ودرء المفاسد، واتباعاً لمبدأ التيسير والتخفيف عن العباد الذي أمرنا أن نسلكه في جميع تصرفاتنا التعبدية.

والذي يمعن النظر في الفقه الاسلامي يجد كثيراً من تطبيقات فقه الأولويات وفي جميع أبوابه، فهناك أولويات في العبادات وأولويات في المعاملات والأحوال الشخصية والحدود والعقائد وغيرها.

لكن سنحاول على وجه السرعة أن نأتي ببعض التطبيقات على فقه الأوليات في نسك الحج فيما يأتي:

إن تكرار الحج مستحب إذا لم يترتب عليه أضرار بدنية بسبب الزحام الشديد، والأخطار المترتبة على ذلك، فإذا كان هناك أضرار فترك الحج النافلة أفضل، لاسيما وهناك أعمال خيرية كثيرة، ومجال واسع لمن يريد الخير من إطعام المحتاجين، وإعانة المعسرين، والإسهام في المشاريع الخيرية النافعة، ودفع الضرر عن المسلمين الذين يجابهون شتى أنواع الظلم والاضطهاد في عموم بقاع الأرض.

1-    إن من فقه أولويات الحج أن يبرئَ المسلم ذمته من حقوق العباد – لاسيما المالية - قبل أن يبدأ بفريضة الحج التي أحاطها رب العزة بشروط يجب توافرها، وأهم تلك الشروط الاستطاعة المالية، فمن لا يملك مؤنة تكفيه ذهابا وإيابا من غير تأثير على قوت أهله وعياله، وكانت ذمته متعلقة بديون لغيره لا يجب عليه أداء الحج، بل من الواجب أن يبرئَ ذمته من الغير قبل أن يفكر في أداء واجب الحج – والله أعلم.

2-    توصل البحث إلى جواز رمي الجمرة الكبرى بعد منتصف الليل لا فرق في الجواز بين معذور وغيره.

والقول بهذا الرأي يتماشى مع سماحة الدين الاسلامي ومنهجه الذي يدعو إلى التيسير والتسهيل، كما أنه يتوافق مع بعض القواعد الاصولية التي ذكرت في كتب اًصول الفقه، فإذا تعارض نصان أحدهما يقول بالجواز والآخر بعدمه فلابد من العدول إلى الجمع بينهما؛ لأن في ذلك أخذاً بالأدلة كلها وهو أولى من ترك بعض الأدلة، وكما قلنا فإن الأخذ بقول الجواز وهو الرمي قبل الفجر توسعة على المسلمين وتيسير عليهم، وهو أمر أقرته الشريعة الاسلامية ودعت إليه في كثير من المناسبات.

3-    جواز الرمي قبل الزوال أيام التشريق؛ لتخفيف الزخم الذي يحصل في بعض الأوقات لأداء المناسك لاسيما وقد كثر عدد الحجاج في وقتنا الحاضر.

فالرمي بعد الزوال هو الموافق لسنة النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو المستحب باتفاق أهل العلم، وأن الرمي قبل الزوال قال به علماء أجلاء من السلف له أدلته وهو الذي يتفق مع سماحة الشريعة ويسرها، فإن من سنة الله في خلقه التيسير عليهم وعدم تكليفهم ما لا يطيقون، يحققه قوله تعالى: ?يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر? وقوله تعالى: ?لا يكلف الله نفساً إلا وسعها?  وقوله تعالى: ?وما جعل عليكم في الدين من حرج?  وقوله تعالى: ?فاتقوا الله ما استطعتم? . وقوله صلى الله عليه وسلم: (فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِالشَّيْءِ فَخُذُوا بِهِ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ، فَاجْتَنِبُوهُ) . وما رواه أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: (يَسِّرُوا وَلاَ تُعَسِّرُوا، وَبَشِّرُوا، وَلاَ تُنَفِّرُوا).

4-    إن الدعوة إلى توسيع عرض المسعى لتخفيف الازدحام فيه عن الساعين أمر مطلوب شرعاً ومرغوب عرفاً, وإن التوسعة ما دامت لا تعارض نصاً ولا تخالف إجماعاً وتحقق مصلحة عظيمةً في تخفيف الازدحام على الحجاج ودفع الضرر عنهم, فالقول بجواز التوسعة أولى من عدمها, ثم إذا كان قد سمى الله السعي طوافا، فقياس التوسعة فيه للناس على توسعة المطاف بالبيت ظاهر جلي للناظر المتأمل.

بل هناك من القواعد الفقهية المعتبرة ما يقضي جواز توسعة المسعى ومنها:

أ‌-      الزيادة لها حكم المزيد.

ب‌-  الزيادة المتصلة تتبع أصلها.

ت‌-  المشقة تجلب التيسير.

ث‌-  إذا ضاق الأمر اتسع.

5-    إن طواف الحاج ماشياً هو الأفضل والأكثر أجراً وأنه إذا طاف راكباً أو محمولاً جاز طوافه وإن كان بدون عذرٍ, وهو ما ذهب إليه أصحاب القول الثاني – والله أعلم.

ويمكن القول أن الطواف على السير الكهربائي جائزٌ لمن يريد أن يطوف عليه وإن كان بدون عذرٍ, فالوقوف على السير الكهربائي أشبه ما يكون بالركوب على الدابة أو الحمل على الرؤوس والحامل يطوف به. ثم إن هناك أمراً مهما هو أن من قال بجواز الطواف راكباً أو محمولاً بدون عذرٍ قال بأن على الحامل أن يرمل ويحرك الدابة ويسرع فيها, وما عمل السير الكهربائي إلا كما صوره الفقهاء بالرمل والاسراع لمن يحمل الحاج ويطوف به.

إضافة إلى ذلك فإن القول بجواز السير الكهربائي للطواف يخفف الزخم على الحجاج وييسر عليهم حجهم ويدفع عنهم ضرر الازدحام وما ينتج عنه من مشقةٍ وأذيةً وضررٍ كبير- والله أعلم.

6-    إن نقل مقام إبراهيم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام جائزٌ شرعاً؛ فليس فيه مخالفةٌ لنصٍ ولا معارضةٌ لدليل ولا مجانبةٌ لفعلٍ أو قولٍ لرسول الله صلى الله عليه وسلم, يؤيد هذا ما ورد من النصوص الصحيحة الصريحة في أن الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، هو أول من رفع المقام فوضعه موضعه الآن، وإنما كان في قبل الكعبة.