الغدر والخيانة خلق أعداء الأمة

الغدر والخيانة خلق أعداء الأمة

 مقال بعنوان الغدر والخيانة خلق أعداء الأمة   

د. ثامر عبد الله داود

لقد جاءت الشرائع الربانية بمدح الأخلاق الحسنة ودعوة الناس إلى التخلق بها، وذم الأخلاق القبيحة وتحذير الناس منها وممن اتصف بها. ومن أخطر الأخلاق الفاسدة ما كان ناتجاً عن فساد القلب بالنفاق؛ لأن صاحبه يكون سيء النية، خبيث الطوية؛ ولذا حذر القرآن من المنافقين ومن الاتصاف بصفاتهم؛ لأنهم أهل غدر وخيانة ? هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ? [المنافقون: 4]. 

والغدر والخيانة صفتان ذميمتان خسيستان، لا يتصف بهما إلا أحقر الناس وأضعفهم وأذلهم، فإذا عجز عن مواجهة خصومه غدر بهم في الخفاء، وطعنهم من الخلف، وخانهم وهم يأمنونه، كما هو فعل المنافقين عبر الأزمان، ولخسة الغدر والخيانة، وحقارة من اتصف بهما نهت الشريعة عنهما، محذرة منهما في نصوص كثيرة؛ فمن صفات المنافق المذكورة في الحديث الصحيح «إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ» وفي حديث آخر «وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ»؛ ولأن الغدر والخيانة وصفان مذمومان فإن الله تعالى نهى عنهما، حتى مع من يتوقع منه الغدر والخيانة، فينبذ إليه عهده، ولا يغدر به ? وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الخَائِنِينَ ? [الأنفال:58] وفي آية أخرى ? إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا ? [النساء:107] وفي حديث أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَدِّ الأَمَانَةَ إِلَى مَنْ ائْتَمَنَكَ، وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ»، وفي حديث آخر عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ثَلاَثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ: رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ، وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ وَلَمْ يُعْطِ أَجْرَهُ».

والملاحظ في هذا الحديث أن الخيانة حاضرة في الثلاثة كلهم؛ فالغادر خائن، ومن باع حرا فقد خانه، ومن لم يوف الأجير حقه فهو خائن له؛ فكانت هذه أفعال الخونة الغدارين. 

ولم يرخص النبي صلى الله عليه وسلم في الغدر حتى في حال الحرب، ومن وصاياه في ذلك «اغْزُوا وَلَا تَغُلُّوا، وَلَا تَغْدِرُوا».

وحين زكى النبي صلى الله عليه وسلم أصحاب القرون الثلاثة الأولى بيّن ما يقع بعدهم من انتشار الغدر والخيانة ، فعن عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أنه سمع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «خَيْرُكُمْ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ - قَالَ عِمْرَانُ: فَمَا أَدْرِي: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ قَوْلِهِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا - ثُمَّ يَكُونُ بَعْدَهُمْ قَوْمٌ يَشْهَدُونَ وَلاَ يُسْتَشْهَدُونَ، وَيَخُونُونَ وَلاَ يُؤْتَمَنُونَ، وَيَنْذُرُونَ وَلاَ يَفُونَ، وَيَظْهَرُ فِيهِمُ السِّمَنُ »، وأهل الغدر والخيانة مفضوحون يوم القيامة كما قَالَ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا جَمَعَ اللهُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يُرْفَعُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ، فَقِيلَ: هَذِهِ غَدْرَةُ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ»، ومهما ظن الخائن الغدار أنه يدرك بالغدر والخيانة غايته، ويحقق هدفه؛ فهو مخطئ؛ إذ يرتد عليه سوء عمله، ويخونه من خان لأجلهم، ويغدرون به كما غدر هو بغيره لهم، وشواهد ذلك من التاريخ ومن الواقع المشاهد كثيرة جدا، والأصل في أهل الكفر أنهم يخونون ولا يؤتمنون، ويغدرون ولا يفون؛ لأنه لا دين يمنعهم من الخيانة؛ ولأنهم يسيرون مع مصالحهم الآنية حيث سارت؛ ولذا ساد في مذاهبهم أن الغاية تسوغ الوسيلة، وأن ما يحقق المصلحة يُفعل ولو انتهك الحرمة. والسياسة المعاصرة مبناها على هذا الفكر المنحرف، وبسببه سفكت الدماء، وشردت الشعوب، وانتشر الخوف والفقر في أرجاء الأرض. 

ولتخلق الكفار بالغدر والخيانة حذر الله تعالى المؤمنين منهم ? إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ ? [الأنفال: 55- 56] وفي آية أخرى ? وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ ? [الأنفال: 71]. وقال الملهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه فيهم «لَا تَأْتَمِنُوهُمْ إِذْ خَوَّنَهُمُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ». 

والأصل في الكافر أنه يخون ولا يؤتمن ولو عاش في بيت النبوة، وقد ضرب الله تعالى الأمثال بذلك؛ حتى يحذر أهل الأيمان فلا يأمنوا لكافر مهما أظهر من الود والتعاطف والنصح ? ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا ? [التحريم: 10] فكانتا تتجسسان على النبيين الكريمين، وتفشيان أسرارهما للكفار لينالوا منهما، ولكن الله تعالى حفظهما وأهلك قومهما، وفضح زوجتيهما الخائنتين. 

وقد دل التاريخ القديم والمعاصر على كثرة خيانة الكفار للمؤمنين، فكثيرا ما يعاهدونهم ثم يغدرون بهم، ويُؤَمنونهم ثم يخونونهم، وجميع طوائف اليهود في المدينة خانت النبي صلى الله عليه وسلم، ولم تف واحدة منها بعهدها مع المؤمنين، فكانت عاقبة خيانتهم القتل والجلاء عن المدينة؛ عقوبة من الله تعالى لهم على غدرهم وخيانتهم. 

وكفار مكة لما عقدوا الصلح مع النبي صلى الله عليه وسلم في الحديبية لم يمكثوا على عهدهم إلا يسيرا حتى نقضوه، فكان فتح مكة مكافأة للمؤمنين على وفائهم، وعقوبة للمشركين على غدرهم وخيانتهم. 

وفي الحروب الصليبية احتمى ألوف من المسلمين بالمسجد الأقصى، وأغلقوا الأبواب عليهم، فأمنهم الصليبيون، فلما فتحوا لهم الأبواب غدروا بهم، فأبادوهم رجالا ونساء وأطفالا. 

وفي واقعنا المعاصر حوادث كثيرة من الغدر والخيانة بالمسلمين فعلها الكفار، وخيانة الصرب والكروات لمسلمي البلقان، وغدرهم بهم ليست عنا ببعيد، وأطول قضية سياسية معاصرة هي قضية فلسطين التي نكث فيها اليهود والنصارى بالعهود، وغدروا بمن وثقوا بهم من العرب كرات ومرات، ولا زالوا يغدرون ويخونون، ومع ذلك لا زال بعض العرب يثق في وعودهم، ويأمن غائلتهم. 

نسأل الله تعالى أن يحفظنا والمسلمين من شر الخونة الغدارين، وأن يهتك سترهم، ويظهر أمرهم، ويردهم على أعقابهم خاسرين، إنه سميع مجيب.