قراءة في التخطيط النبوي في الهجرة

قراءة في التخطيط النبوي في الهجرة

 مقال بعنوان قراءة في التخطيط النبوي في الهجرة

أستاذ دكتور ادريس عسكر حسن

الحمد لله رب العالمين وأفضل الصلاة وأتم التسليم على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحابته الغر الميامين.

اما بعد :

فالمتابع لاحدات الهجرة النبوية إلى (المدينة المنورة)  والناظر بعين البصيرة والبصر يقف على أعظم الدروس والعبر : وهو التخطيط، والإعداد والتنظيم سواء كان قبل الهجرة أو في اثنائها حتى لا تكاد تجد حركة من حركاتها، أو لمحة من لمحاتها الا ومعالم التخطيط حاضر فيها، فقد وظف النبي صلى الله عليه وسلم جميع الإمكانات المادية والبشرية من أجل إنجاح هذه الرحلة الفارقة بين زمانين ومكانين : زمان ومكان الاستضعاف، وزمان ومكان التمكين، والفارقة بين مرحلتين : مرحلة الدعوة، ومرحلة الدولة لذا جاءت الهجرة النبوية بأعلى درجات التخطيط ( وفق المفهوم الحديث للتخطيط اليوم) بعيدا عن أي هامش للعفوية والارتجال... والمتامل في السيرة النبوية يدرك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعد ويخطط للهجرة عندما ضاقت مكة بأصحاب الرسالة منذ زمن، وبستشف ذلك من خلال إرساله لمصعب بن عمير رضي الله عنه إلى يثرب يومها في محاولة لإيجاد قاعدة آمنة وحاضنة لهذه الدعوة الفتية، وكان من ثمار هذا البعث اللقاء بالانصار في العقبة الثانية ليضع من خلالها ، خطوات الهجرة بعد أن أخذ البيعة منهم والعهود في حمايته ونصرته وكل ذلك يدخل في دائرة التخطيط الدقيق والمسبق لرسم خارطة الهجرة والمرحلة التي تليها، ثم أرسل المهاجرين فرادى، وزرافات إلى المدينة لتعزيز البيئة الآمنة وهذا يجسد النظرة المستقبلية الثاقبة، والتخطيط الاستراتيجي الدقيق للنبي صلى الله عليه وسلم، فكانت الأجواء مهيأة، والظروف مناسبة، وعندما إذن الله تعالى لنبيه صلوات ربي وسلامه عليه بالهجرة؛ كان التخطيط حاضرا بكل التفاصيل، من اختيار الرفيق، وتهيأة الدليل، وايهام قريش، وإعداد الراحلة، والسرية التامة، والخروج ليلا والمكوث في غار في جبل ثور وما رافق ذلك من تخطيط رفيع مع عائلة الصديق رضي الله عنهم للقيام بجملة من المهام منها : امدادهم بالزاد واخبار القوم، ومكائدهم، وتعمية الطريق في فترة الطلب وهيجان قريش يدلل بوضوح على الغاية في التخطيط النبوي والأخذ بالأسباب المتاحة لإنجاح هذه المهمة العظيمة التي حولت مجرى التاريخ، وغيرت مسيرة الحياة ولنسمع للسيدة عائشة رضي الله عنها الصديقة بنت الصديق الحصان الرزان وهي تخبرنا عن بعض ملامح التخطيط النبوي في الهجرة: قَالَتْ عَائِشَةُ : فَبَيْنَمَا نَحْنُ يَوْمًا جُلُوسٌ فِي بَيْتِ أَبِي بَكْرٍ فِي نَحْرِ الظَّهِيرَةِ قَالَ قَائِلٌ لِأَبِي بَكْرٍ : هَذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَقَنِّعًا فِي سَاعَةٍ لَمْ يَكُنْ يَأْتِينَا فِيهَا. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : فِدَاءٌ لَهُ أَبِي وَأُمِّي، وَاللَّهِ مَا جَاءَ بِهِ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ إِلَّا أَمْرٌ. قَالَتْ : فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَاسْتَأْذَنَ، فَأُذِنَ لَهُ، فَدَخَلَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي بَكْرٍ : " أَخْرِجْ مَنْ عِنْدَكَ ". فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : إِنَّمَا هُمْ أَهْلُكَ بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ : " فَإِنِّي قَدْ أُذِنَ لِي فِي الْخُرُوجِ ". فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : الصَّحَابَةَ بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " نَعَمْ ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ : فَخُذْ بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِحْدَى رَاحِلَتَيَّ هَاتَيْنِ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " بِالثَّمَنِ ". قَالَتْ عَائِشَةُ : فَجَهَّزْنَاهُمَا أَحَثَّ الْجِهَازِ، وَصَنَعْنَا لَهُمَا سُفْرَةً فِي جِرَابٍ، فَقَطَعَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ قِطْعَةً مِنْ نِطَاقِهَا، فَرَبَطَتْ بِهِ عَلَى فَمِ الْجِرَابِ ؛ فَبِذَلِكَ سُمِّيَتْ ذَاتَ النِّطَاقِ، قَالَتْ : ثُمَّ لَحِقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَبُو بَكْرٍ بِغَارٍ فِي جَبَلِ ثَوْرٍ، فَكَمَنَا فِيهِ ثَلَاثَ لَيَالٍ يَبِيتُ عِنْدَهُمَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ وَهُوَ غُلَامٌ شَابٌّ ثَقِفٌ لَقِنٌ فَيُدْلِجُ مِنْ عِنْدِهِمَا بِسَحَرٍ فَيُصْبِحُ مَعَ قُرَيْشٍ بِمَكَّةَ كَبَائِتٍ، فَلَا يَسْمَعُ أَمْرًا يُكْتَادَانِ بِهِ إِلَّا وَعَاهُ حَتَّى يَأْتِيَهُمَا بِخَبَرِ ذَلِكَ حِينَ يَخْتَلِطُ الظَّلَامُ، وَيَرْعَى عَلَيْهِمَا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ مِنْحَةً مِنْ غَنَمٍ، فَيُرِيحُهَا عَلَيْهِمَا حِينَ تَذْهَبُ سَاعَةٌ مِنَ الْعِشَاءِ، فَيَبِيتَانِ فِي رِسْلٍ وَهُوَ لَبَنُ مِنْحَتِهِمَا وَرَضِيفِهِمَا حَتَّى يَنْعِقَ بِهَا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ بِغَلَسٍ ، يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ تِلْكَ اللَّيَالِي الثَّلَاثِ، وَاسْتَأْجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ رَجُلًا مِنْ بَنِي الدِّيلِ - وَهُوَ مِنْ بَنِي عَبْدِ بْنِ عَدِيٍّ - هَادِيًا خِرِّيتًا - وَالْخِرِّيتُ : الْمَاهِرُ بِالْهِدَايَةِ...

لذا ينبغي على الأمة اليوم اذا أرادت نجاح مشاريعها الدنيوية والدينية أن تتحلى بمنهج النبي صلى الله عليه وسلم في التخطيط، والإعداد، والتنظيم وترك العفوية والفوضى والارتجال، ولا يغرنكم كلام الباهتين الذين ارتضوا لأنفسهم القعود مع الخوالف؛ بحجة التوكل وقد تركوا الأخذ بأسباب التقدم والرقي، وما علموا بأن هذا الصنيع لا ينسجم ومنهج النبي صلى الله عليه وسلم الذي علم الأمة الأخذ بالأسباب مع التوكل على الله تعالى.

والحمد لله رب العالمين