التصريح بالمفعول مع الخير، وإضماره مع أفعال الضر

التصريح بالمفعول مع الخير، وإضماره مع أفعال الضر

 

التصريح بالمفعول مع الخير، وإضماره مع أفعال الضر

بقلم : أ.د.فراس يحيى عبدالجليل

جامعة الأنبار – كلية العلوم الإسلامية

من القواعد التي ذكرها العلماء في باب أدب الخطاب مع الله تعالى نسبة الخير إليه تعالى، وعدم نسبة خلافه إليه، أن القرآن الكريم حينما يذكر إيصال الله تعالى الخير إلى الناس، فإنه يصرح بذكر المفعول، تبشيرا وتذكيرا بالفضل، ودعوة إلى الشكر، وحينما يذكر مقابله من إيقاع الضر من منعه تعالى وصول رحمته أو رزقه، أو نحو ذلك من مفعولات الخير، فإنه يحذف المفعول الذي يفهم من السياق، وكأنه يشير إلى أن منع الخير عن الناس ليس مطلوبا، ولا مرغوبا بفعله، وإنما استدعاه فعلهم، وأمثلته كثيرة، منه: قوله تعالى: ]مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ[ فاطر:2.

 فأنت تلاحظ أنه في حصول الخير والرحمة صرح بما يفتحه للناس وهو الرحمة، بينما في خلافها قال: ]فَلا مُرْسِلَ لَهُ[، فلم يصرح بعدم إرسال الرحمة، فلم يقل: فلا مرسل للرحمة، وكأن المراد غير الرحمة، ثم ألمح إلى هذا بتأنيث الضمير أولاً:]فَلا مُمْسِكَ لَهَا[ فأعاده إلى الرحمة صريحا، بينما ذكره مع خلافها ]فَلا مُرْسِلَ لَهُ[ ليعود على ما يمسك وكأنها ليست مقصودة هنا، إشعارا بأن رحمته لا تنقطع عن العباد، وأنها تسبق غضبه.([1])

 يقول الرازي:([2]) «وفي الآية دليل على سبق رحمته غضبه من وجوه: أحدها: التقديم حيث قدم بيان فتح أبواب الرحمة في الذكر، وهو وإن كان ضعيفاً لكنه وجه من وجوه الفضل. وثانيها: هو أن أنث الكناية في الأول فقال: ]مَّا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا[ وجاز من حيث العربية أن يقال: له، ويكون عائداً إلى (ما)، ولكن قال تعالى: ]لَهَا[ ليعلم أن المفتوح أبواب الرحمة ولا ممسك لرحمته، فهي وصلة إلى: من رحمته. وقال عند الإمساك: ]وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ[ بالتذكير ولم يقل: لها، فما صرح بأنه لا مرسل للرحمة، بل ذكره بلفظ يحتمل أن يكون الذي لا يرسل هو غير الرحمة، فإن قوله تعالى: ]وَمَا يُمْسِكْ[ عام من غير بيان وتخصيص، بخلاف قوله تعالى: ]مَّا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ[ فإنه مخصص مبين. وثالثها: قوله: ]مِن بَعْدِهِ[ أي: من بعد الله، فاستثنى ههنا، وقال: لا مرسل له إلا الله، فنزل له مرسلا. وعند الإمساك قال: لا ممسك لها، ولم يقل: غير الله، لأن الرحمة إذا جاءت لا ترتفع، فإن من رحمه الله في الآخرة لا يعذبه بعدها هو ولا غيره، ومن يعذبه الله فقد يرحمه الله بعد العذاب، كالفساق من أهل الإيمان».

ومنه قوله تعالى: ]اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ [الرعد: 26، وقوله: ]إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا[ الإسراء: 30، وقوله:]وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا[القصص: 82، وقوله: ]اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ[ العنكبوت: 62، وقوله: ]قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ[ سبأ: 39، وقوله: ]لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ[ الشورى: 12،

فمع فعل البسط صرح بالمفعول (يبسط الرزق)، ومع قبضه وتقديره حذف المفعول، فقال: (ويقدر)، فقدم أولا بسط الرزق تنبيها على أنه المقدم بالإرادة، ثم حذف المفعول مع التضييق والتقليل، وتركه مطلقا، ليحتمل أن المقدر غير الرزق، تلطفا في الخطاب، وإشعارا بأن الرحمة سابقة على خلافها، وأنها المرادة بالذات وبالقصد.

       بعد هذا يتبن لنا : أنه لدى استقراء آيات القرآن المتعلقة بموضوعات الخير والشر، تبين لنا أن القرآن الكريم اتبع مع حذف المفعول من ضر وتضييق رزق ونحو ذلك، وقد يأتي مرتبا على فعل الإنسان، من باب الجزاء، وهذا يؤكد لنا بأن ذلك يجري من باب الأدب مع الله تعالى، وللتنبيه على أن الله تعالى يريد بعباده الرحمة، ولا يريد بهم الشر والضر، وأن رحمته تسبق غضبه.

 

 

 

 



[1]-  ينظر: أنوار التنزيل: 4/253، إرشاد العقل السليم: 7/ 147 وروح المعاني: 11/338-339.

[2]-  مفاتيح الغيب: 26/222.