تأملات في سورة الكوثر

تأملات في سورة الكوثر

 تأملات في سورة الكوثر

الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.

وبعد:

فهذه وقفات تدبرية مع سورة كريمة من سور القرآن، سورة قليلة في حروفها ومبانيها؛ عظيمة في مقاصدها ومعانيها؛ إنها سورة الكوثر؛ أقصر سورة في القرآن الكريم، أنزلها الله تعالى في نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ممتناً عليه بمنة عظيمة، فقد أعطاه الكوثر، وهو الخير الكثير ومنه نهر الكوثر الذي سيكرمه الله به في الآخرة، ثم أمره أن يشكره (على هذه المنة والكرامة) بالصلاة لربه الذي حباه بهذه المنة والنحر له سبحانه، ووعده سبحانه أن يقطع من يبغضه ويعاديه ويقطع كيده..

هذي هي مجمل المعاني الظاهرة للآية، ولكن تكمن خلف هذه المعاني معانٍ عظيمة وحِكَم باهرة، فالسورة وإن كانت تخاطب نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم بالمقام الأول والمقصود الأصل إلا أنها تصلح أن تكون خطاباً لكل مَنْ تبعه ظاهراً وباطناً..

?إنا? هذا التعبير مؤلف من كلمتين: إن: وهو حرف يفيد توكيد الخبر الذي سيُذكر بعده، ولكون الله تعالى لا يحتاج إلى توكيد كلامه فإن هذا الحرف يفيد الاهتمام بالخبر الذي بعده والإشادة به. والكلمة الثانية هي الضمير (نا) وهو هنا مستعمل للمتكلم المفرد المعظم نفسه، فعظم الله نفسه ليفيد تعظيم المُعْطَى ?الكوثر? وتعظيم المُعْطَى له وهو رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم ويلحق به أتباعه.. وهذا التعظيم أيضاً يتناسب مع لفظ (الكوثر) الدال على الخير الكثير، فالكوثر هو خير كثير عظيم، كثير بذاته عظيم بأوصافه.

ولما كان ما ذُكر في الآية الأولى منةً عظيمةً تستوجب الشكر قال الله تعالى في الآية الثانية آمراً بشكرها: ?فصلِّ لربك وانحر? فأمر النبي صلى الله عليه وسلم وأمته بإقامة الصلاة ونحر النَّعَم له سبحانه، وهنا يرد تساؤل: لماذا خُصت هاتان العبادتان بالذكر (الصلاة والنحر) دون غيرهما؟ ويلفت نظرنا أيضاً أنه هنا قُرِنت الصلاة بالنحر ولم تُقرن بالزكاة كما هي عادة القرآن؛ أن تُقرن الصلاة بالزكاة والنفقة؟

والجواب على هذين التساؤلين هو: إن الصلاة صلة بين العبد وربه كما هو معلوم، فمن شأن الصلاة ــــ إذا ما أُقيمت على الوجه الصحيح ظاهراً وباطناً ــــ أن تجعل قلب العبد متصلاً متعلقاً بربه حباً وخوفاً ورجاءً وتعظيماً وإخلاصاً وتوكلاً وغير ذلك من معاني العبودية. أما النحر فإن فيه قطعاً لتعلق قلب العبد بالدنيا، فعادةً ما يكون المذبوح (الشاة أو البقرة أو الجمل) غالي الثمن، فعندما يشتريها العبد ويذبحها فكأنه ينحر تعلق قلبه بالدنيا وزينتها، ويقطع تعلق قلبه بالمال الذي ينحره نحراً. وبهاتين العبادتين يكون قلب العبد خالصاً لربه متصلاً به منقطعاً عن غيره. فكأن الله تعالى يقول لعبده: وإن أردتَ أن أَصِلَكَ بالخير الكثير العظيم في الدنيا والآخرة فعليك بالاتصالِ بي وقَطْعِ صلتك عن غيري.

ولكون العبد المخلص لربه سيواجهُ عقباتٍ تتمثل بأعداء الله تعالى الذين يحاولون صدَّ عباد الله عن الصراط المستقيم المؤدي إلى رضا الرب سبحانه، أخبر الله تعالى بأنه سيقطع العدوَّ المُبْغِضَ ويردُّ كيده في نحره فقال في الآية الثالثة من هذه السورة العظيمة ?إن شانئك? أي: عدوك الذي يبغضك بغضاً شديداً ?هو الأبتر? أي: المقطوع عن الخير المخذول عن الوصول إلى تحقيق غايته في صد عباد الله المخلصين عن الصراط المستقيم. فكأن الله يقول لعبده: لا تلتفت إلى أعدائي وأعدائك ولا تجعلهم يشغلونك عن الغاية التي خلقتُكَ لأجلها ـــ التي هي عبادة الله وحده ــــ فإنهم مقطوعون عن الخير مخذولون عن إيصال الضرر بعباد الله المخلصين، وهذا كما قال تعالى: ?إن الله يدافع عن الذين آمنوا? [سورة الحج: من الآية 38] وقال: ?لن يضروكم إلا أذى? [سورة آل عمران: من الآية 111].

ويلاحظ في ترتيب آيات السورة أنها ابتدأت بعلاقة الله تعالى بعبده، ثم بعلاقة العبد بربه، ثم ذكرت أعداء الله وأعداء عباده الصالحين، وعلى أساس هذا الترتيب جاء ترتب الآية الثانية (الآية الوسطى)، حيث قُدمت الصلاة على النحر ?فصل لربك وانحر?، لأن الصلاة تلائم شكر الله تعالى الذي يَصِلُ عبدَهُ بالخير الكثير، والنحر يلائم عدوَّ المؤمن؛ لأنه يشير إلى نحر وقطع كل التفات من العبد إلى عدوِّه.

فسبحان مَنْ ضمَّن هذه السورة القصيرة هذه المعاني العظيمة، وهذه الإشارات العميقة، وفي السورة هدايات وإشارات كثيرة لا يمكن الإحاطة بها، وقد بين بعضَها علماؤنا وأئمتنا، وكل ذلك شاهد على إعجاز القرآن الكريم الذي تحدى الإنس والجن على أن يأتوا بسورة من مثل سور القرآن، وقد شمل هذا التحدي أقصر سورة في القرآن وهي سورة الكوثر، كما شمل أطول سورة في القرآن وهي سورة البقرة، فالإعجاز فيهما سواء.

وختاماً.. أسأل الله أن أكون قد وفقتُ في بيان ما أردتُ بيانه..

والحمد لله أولاً وآخراً، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.