المنهج النبوي في دفع الفساد

المنهج النبوي في دفع الفساد

 مقال بعنوان: المنهج النبوي في دفع الفساد:

أ.د علاء كامل عبد الرزاق

سأحاول تسليطَ الضوءِ على بعضِ جوانبِ الفساد ومجالاتِهِ من خلالِ أحاديثِ النَّبيِّ محمَّدٍ (صلى الله عليه وسلم ) وكيفَ حذَّر منها، وبيَّن أنَّ انتشار الفسادِ من أشراطِ السَّاعةِ حيثُ قالَ (صلى الله عليه وسلم ): "إنَّ من أشراطِ الساعةِ: الفُحشُ والتَّفحشُ وقطيعةُ الأرحامِ وائتمانُ الخائِنِ، أَحسَبُهُ قال: - وتخوينُ الأمينِ، أو كلمةٍ نحوَها - "[1]. وهذا حديثٌ جامعٌ شاملٌ لكافةِ أنواعِ الفسادِ، ففيه الفسادُ الروحي متمثلاً بخبثِ السريرةِ في سوءِ الكلامِ وقطيعةِ الأرحامِ، وفيه الفسادُ الجسدي متمثلاً بالقطيعةِ، وفيه الفسادُ الإداريّ متمثلاً بتخوينِ الأمينِ.

ثمَّ جعلَ صفةَ المصلحينَ غرباء في آخرِ الزمانِ، وأنَّ الفسادَ سينتشرُ بينَ النَّاس؛ فعن سعدِ بنِ أبي وقاصٍ (صلى الله عليه وسلم )  قال: سَمعتُ رسول اللهِ (صلى الله عليه وسلم )  وهو يقولُ: " إنَّ الإيمانَ بَدأَ غَريبًا وسَيعودُ كما بَدَأَ، فطوبى يَومَئذٍ للغُرَباءِ إذا فَسَدَ النَّاسُ "[2].

وبيَّنَ (صلى الله عليه وسلم ) في حجةِ الوداعِ منهجاً عظيماً في درءِ الفسادِ وأنُّه حرامٌ في شتى مجالاتِهِ؛ فعن حِذْيَمٍ ابنِ عَمْرٍو، أنَّه شَهِدَ رسولَ اللهِ (صلى الله عليه وسلم )  في حجَّةِ الوداعِ، فقال: " أَلا إنَّ دِماءَكُم وأموالكُم وأعراضَكُم عليكُم حرامٌ، كحُرْمَةِ يومكُم هذا، وكحُرْمَةِ شهرِكُم هذا، وكحُرْمَةِ بلَدِكُم هذا "[3].

من خلالِ ما سبقَ يتبيَّنُ أنَّ الفسادَ يشملُ مجالاتٍ شتَّى، وأنَّ منافذَه وطُرُقَه وأبوابَه كثيرةٌ، وسأحاولُ التركيز في هذا المقال على واحد منها وهو:

 

       الفساد الروحي:

       هو أحدُ أنواعِ الفسادِ الأخلاقيِّ الذي لا يقلُّ خطراً عن أنواعهِ الأخرى، بل هو أخطرُها، فكم من بيوتٍ تمزقت أُسَرُها بسببِ هذا النوعِ، وأعني به هو كلُّ ما يتخالجُ في صدرِ الإنسانِ من أمورٍ مضرَّةٍ يُتَرجِمُها على أرضِ الواقعِ فيُحدِثُ ضرراً قد يصيبُ الفردَ أو المجتمع.

       وله أشكالٌ وصورٌ: كالحسدِ والغيبةِ والنميمةِ والكِبرِ والكذبِ والحقدِ والرِّياء وغيرِها من أمراض النفوسِ التي حذَّر منها الشارعُ الحكيم. 

       روى أبو داودَ في سنَنِهِ عن مُعاويَةَ، قالَ: سَمعتُ رسولَ اللَّه (صلى الله عليه وسلم )  يقولُ: " إنَّكَ إنِ اتَّبعتَ عوراتِ النَّاسِ أفْسَدتَهُم، أو كِدْتَ أنْ تُفْسِدَهم ". فقالَ أبو الدَّرداءِ: " كَلمةٌ سَمِعها معاويةُ من رسول اللَّه نَفَعَهُ اللَّهُ تعالى بها "[4].

أي: إذا بَحَثْتَ عن عيوبِ الناسِ وفَضَحتَهُم وجاهَرْتَهم بذلك، فإنَّه يُؤدِّي إلى قلَّةِ حَيائِهِم عنكَ فَيَجْتَرِئون على ارتكابِ أمثالِها مُجاهَرةً[5]، فالواجبُ أن يكونَ العلاجُ سراً ونُصحاً، وهذا علاجٌ روحيٌّ نبويٌّ مهم.

ثمَّ ميَّزَ النَّبيُّ (صلى الله عليه وسلم )  بين خيارِ النَّاسِ وشرارِهم؛ حيثُ قالَ: " ألا أُخبِرُكُم بخِيارِكُم؟ قالوا: بلى. قال: فَخيارُكُم الَّذين إذا رُؤُوا ذُكِرَ اللهُ تعالى.

ألا أُخبِرُكُم بِشِراركم؟ قالوا: بلى. قالَ: فَشِرارُكُمُ المُفسدونَ بينَ الأحِبَّةِ، المشَّاءُونَ بالنَّميمةِ، الباغونُ البُرآءُ العَنَتَ"[6].

فشرارُ الخلقِ المفسدونَ بينً الناسِ والساعونُ بالفتنةِ والنَّميمةِ وقولِ الزورِ والبهتانِ، ومنهم مَن يسعى لإفسادِ الصالحينَ والبحثِ عن زلاتِ البريئينَ.

إنَّ هذا التحذيرَ يبيِّنُ خطرَ هذا الفسادِ وأثرَهُ في إفسادِ المجتمعِ، فهؤلاءِ المفسدونَ هم شرُّ الناسِ.

ولهذا وضعَ النَّبيُّ (صلى الله عليه وسلم ) وصايا عظيمةً لعلاجِ هذا النَّوعُ من الفسادِ؛ فعن أبي هريرةَ (صلى الله عليه وسلم ) ، قال: قال رسولُ الله (صلى الله عليه وسلم ): " لا تحاسَدوا، ولا تَناجشوا، ولا تَباغَضوا، ولا تَدابَروا، ولا يَبِعْ بَعضُكم على بَيعِ بعضٍ، وكونوا عبادَ اللهِ إخوانًا المسلمُ أخو المسلمِ، لا يَظلِمُه ولا يَخذُلُه ولا يَحْقِرُه، التَّقوى هاهُنا، ويُشيرُ إلى صَدرِهِ ثلاثَ مرَّاتٍ بِحَسْبِ امْرِئٍ من الشَّرِّ أنْ يَحقِرَ أخاهُ المُسلمَ، كلُّ المسلمِ على المسلمِ حرامٌ دمُهُ ومالُه وعِرضُهُ "[7].

فجعلَ الأساسَ في ذلكَ كلِّهِ هو القلبُ، فقال: التقوى هاهنا، فهي إشارةٌ إلى أن الفسادَ الرُّوحيَّ لا بدَّ من معالجَتِهِ وغلقِ منافذِهِ.

فعلاجُ الفسادِ الروحيِّ يكونُ بتصفيةِ وتطهيرِ القلوبِ ممَّا أصابَها من الأمراضِ، وهي لا تأتي إلا بأسلوبِ الترغيبِ والترهيبِ الذي أرشدنا إليه اللهُ تبارك وتعالى في كتابِهِ الكريمِ، وبيَّنهُ لنا النبيُّ محمدٍ (صلى الله عليه وسلم )  في منهجِهِ وسنَّتِهِ.

 

يتبع ...

 



[1] مسند البزار المنشور باسم البحر الزخار: لأبي بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق بن خلاد ابن عبيد الله العتكي المعروف بالبزار (ت292هـ) تحقيق: محفوظ الرحمن زين الله وآخرون. مكتبة العلوم والحكم - المدينة المنورة. الطبعة الأولى 1988م-2009م  14/64 برقم (7518) مسند أبي حمزة أنس بن مالك.

وحسن إسناده الألباني. ينظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة  5/280 برقم (2238).

[2] مسند الإمام أحمد بن حنبل: لأبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد الشيباني (ت241هـ) تحقيق: شعيب الأرنؤوط - عادل مرشد، وآخرون. إشراف: د عبد الله بن عبد المحسن التركي. مؤسسة الرسالة. الطبعة الأولى 1421هـ - 2001م 3/157 برقم (1604). قال محققو المسند: إسناده جيد.

[3] مسند أحمد: 31/301 برقم (18966). وقال محققو المسند: حديث صحيح لغيره.

[4] سنن أبي داود: كتاب الأدب. باب في النهي عن التجسس 4/272 برقم (4888). وصحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان: لمحمد بن حبان بن أحمد بن حبان بن معاذ بن مَعْبدَ، التميمي أبي حاتم الدارمي البُستي (ت354هـ) تحقيق: شعيب الأرنؤوط. مؤسسة الرسالة – بيروت. الطبعة الثانية 1414هـ – 1993م. وقال شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح.

[5] ينظر: عون المعبود: 13/159.

[6] مسند أحمد: من حديث أسماء بنت يزيد. 45/576-577 برقم (27601)، وحسنه محققو المسند: 45/577.

[7] صحيح مسلم: كتاب البر والصلة والآداب. باب تحريم ظلم المسلم وخذله واحتقاره ودمه وعرضه وماله. 4/1986 برقم (2564).