إيحاءات خاطرة ( شؤم المعصية )

إيحاءات خاطرة ( شؤم المعصية )

 

أيحاءات خاطرة ( شؤم المعصية )
أ.د محمود عقيل معروف

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على حبيبي وقرة عيني المبعوث رحمة للعالمين ، وعلى اله وصحبه ربيع الدنيا وأثمد العين الطيبين الطاهرين وسلم تسليما كثيرا ، وبعد :

 

إن مما يشهده المسلم ويدركه معاينة بالمحسوس و الملموس ،أن للذنوب والمعاصي أثرا في سيرته ومسيرته اليومية ، وكذا من خلال عمله وتعاملاته .

ومما لا يخفى ما ورد من الآثار عن بعض الأكابر أنهم قالوا : إنا كنا نلمس  أثر الذنوب في خلق دابتنا ومعاملة أزواجنا كذلك .

وبعد التأمل فلقد نمت وكان يجول في خاطري أمر ،وإذ أنا أسير بدرب وأمامي بيت شاهق البنيان،وعن يميني وعن شمالي حديقة نضرة، وإذ بخاطر أو مناد يلقي في روعي تاليا آيات من الذكر الحكيم مبتداء بسورة الحج من قوله (( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوُابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ )) (الحج:18)

وكذا من قوله

(( تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً )) (الإسراء:44)

وكذا من قوله

(( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ )) (النور:41)

ثم جاءني الجواب :

إن كل ذرات الوجود خاضعة لله جل في علاه ، وجسم الإنسان ذاته خاضع أيضا كما دل عليه عموم كلمتي (كل) و(شي) في الآيات السابقة .

 

فإذا أصاب المسلم ذنبا أو وقع في معصية ، فان ذاته ستمجه ابتداء ، أما في الدنيا (ضيق وتعب وكآبة )

وأما في الآخرة ((حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ*وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ*وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ*وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ)) (فصلت:20ـ23)

وهذا لذاته أولا ، ثم يسري الأمر نفسه إلى جميع ذرات ومكونات الوجود الخاضعة بالفطرة لله رب العالمين ، كل من الناس والدواب والأشجار والآكام و البحار والأحجار المذكورة في محكم التنزيل بأنها خاضعة ساجدة تسبح له ليل نهار .

وعندها سيحصل الصراع على شقين :

الشق الأول :  مع ذاته ؛ وذلك أن هذا الجسم وبما فيه خاضع لله كما ذكرنا ، فإذا ما اقترف العبد معصية حصل النزاع بينه وبينه ، وعندها لايقوى الجسد والروح على مطاوعته إلا مكرها فتتعسر الأمور وتضيق الصدور كأنها تصّعد إلى السماء .

 

الشق الثاني:  مع الكون ؛ والمقصد  بما احتوى من أب وأم وإخوة وزوج وصديق وعمل ونجوم وشجر وكواكب ارض وسماء ، وهي معبدة له ، فإذا ما انحرف أو وقع في مخالفة شرعية فالكون بأسره سيصارعه ويزدريه امتثالا لأمره  (( وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ )) .

وما أدل لذلك إلا ما ورد من أن الأرض ستشهد على بني الإنسان ، وأنها ستستريح من العصاة الذين كانوا على ظهرها بعد أن أعدت نفسها للانتقام منهم وقد ضمتهم بين أحضانها (( وللقبر ضمة لو نجى منها احد لنجى منها سعد )) وشتان بين الضمتين .

حتى خروج الروح وعروجها واستقبال الملائكة لها من موقف الاشمئزاز والنفرة لسوء العمل وعلى خلافها إن كان من أهل اليمن والإيمان .

واني لأبصر من خلال بعض النصوص أيضا فأجد إيحاءات لها ارتباط بالمعنى ذاته ، فمعلم الناس الخير تدعوا وتستغفر له الحيتان في البحار والنمل في الجحور ونصوص أخرى مشابهة لها ، وكذلك

في وصف الله لنبيه في معرض كلامه عن الأنبياء في سورة الأنبياء انه قال ((وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)) (الأنبياء:107) وكذلك ما ورد عنه أنهم عندما كانوا يمشون في ركب ولعنت امرأة دابتها فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم بإخراج دابتها واخبرها بعدم إمكانية سيرهم ومعهم شي ملعون،وقال (( لاتتبعنا دابة ملعونة )) .

 

ولعلي أشير إلى الجواب هنا فأقول :

إن تعليم الخير إذا انتشر فسوف يعم بقاع الأرض كلها من شجر ودواب ومخلوقات أخرى في هذا الكون ، وحقيقة التعليم هو إعطاء كل شيء حقه ومستحقه ، وعندها لا ظلم لأي مخلوق على هذا الوجود أبدا ، فله حقه الذي أعطاه الله وعنده حق للمخلوقين المودع عنده منه ، وعندها تسير الحياة بمراد الله لا تظلمون ولا تظلمون ، فحق للكون كله أن يدعوا ويستغفر لمعلم الناس الخير وهذا محض ما أودع الله فيهم من ذرات العبودية .
وهذا لمعلم الناس الخير ، فكيف بنا بقدوة معلمي الناس الخير، وهذا محض قوله ((وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ))

(( فالعالمين )) : اسم يشمل كل ما خلق الله في هذا الكون،وللسائل أن يسأل كيف تكون رحمة النبي للأرض وما فيها من بحار وأشجار وجراثيم وكائنات حية دقيقة ومخلوقات أخرى لايعلمها إلا هو ،وكذلك السماء وما فيها من نجوم وكواكب وأجرام سماوية لايعلمها إلا هو؟

 

والجواب : لمحة مما سبق من القول ثم التمعن في كتاب الله جل في علاه متأصلا عندنا ما تأصل وتوصل إليه بديع الزمان النورسي رحمه الله "الجمع بين القران المنظور والمسطور" وعندها سندرك كيف أن نبينا المبجل أرسل رحمة للعالمين لا للعالمين .

ولمحة منه فان الأمم السابقة نظرت إلى الكون وما فيه على انه آلة يستخدم لإشباع الشهوات والنزوات فأهانته ،وأمة نظرت إليه انه ملهاة عن الوصول إلى الله فترهبنت فأهملته ،فضاع الكون بين الاهانة والإهمال .

 

أما كتابنا المسطور فأمرنا بالموازنة بينهما فنحن نستخدمه مع احترام النواميس التي أمرنا بها من غير إفراط ولا تفريط كوننا مأمورين باعتماره (( هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا )) (هود: من الآية61) وبين أن نتأمل ونتفكر في هذا الكون من بديع صنع وعظيم خلق.

والآيات دلت على هذا المعنى ، فالكون بأجزائه مرة يأتي ليستخدم ومرة يأتي للتفكر ، ولا يمكن أن تقام حضارة بدون الجمع بين التسخير والتفكر . ثم الأمر نفسه محض إدراك لرحمة النبي للكون ومن فيه.

والدليل عليه  أن من كان هذا شأنه وشأوه "عمل وتفكر" بعد عن الانحطاط وبكل ما احتوته هذه  الكلمة من معنى ، وفي جميع الأوساط والمؤسسات .

وعندها يسير الركب براحة عظيمة كما سار عليها الجيل الأول من أسطور للحضارة، فكانوا مضرب أمثال لمن خلفهم من الأجيال وغرة في جبين التأريخ والحضارات فكان بذلك حقاً "رحمة للعالمين".

وما أمر المرأة التي لعنت دابتها فأمرت بإخراجها إلا تعليما لها وإعطاء لحقوق من معها وحق الدابة التي لعنت فكان ذلك الزجر والتأديب درسا بليغا في غاية الأهمية .

وللأمر مشابه إذ رؤى من يضرب دابته بقسوة فقيل له :إن الله كتب الإحسان في كل شيء ،وكذا بالرفق فان الرفق ما كان في شي إلا زانه وما رفع من شي إلا شانه.

ولقد عذبت امرأة في هرة حبستها لاهي أطعمتها ولاهي تركتها تأكل من حشائش الأرض ، وعلى عكسها فقد دخلت امرأة بغي من بني إسرائيل الجنة بسقيها الكلب المشغوف الملهوف إلى الماء فغفر الله لها.

واني لأنظر إلى الأرض والحيوانات والأشجار وجميع النباتات لتشكو إلى الله صنيع بني الإنسان بمنعها القطر والرزق بسوء فعال من على الأرض "ولولا البهائم لم يمطروا" وقصة المذنب مع موسى في استسقائه مع قومه خير شاهد ودليل ، قال تعالى )) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ((  (الأعراف:96) وقوله على لسان هود (( وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ )) (هود:52)

 

 

وقوله على لسان نوح (( فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً )) (نوح :10-12)

ولا يمنع أن تكون الأجساد الطاهرة المتوجهة إلى الله محفوظة إلى الأبد في باطن الأرض لتشبعها بالامتثال لأمره جل ربي في علاه ؛ وفي الواقع القريب والبعيد وقائع عديدة شاهدة عليه.

ولعل الناظر في كتاب الله يجد من ذلك ومضة ، فالله قد خاطب الرسل بقوله (( يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً ))(المؤمنون: من الآية51) فعلق العمل على الأكل في صالح العمل

وهذا الامتثال طاعة ، وفي دوام الطاعة تتولد الطاعات حتى يصير الجسد مشبعا به ، وعكسه الأكل الحرام وهو السحت والنار أولى به ، وهذا في الآخرة

أما في الدنيا فله تأثير على جسد وروح الذرية ((وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً ))(الكهف: من الآية82) ((وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ)) (الطور:21) ومن ثم دعاء خاصة الملائكة  { الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } غافر{ 7 - 9 } فكان الجزاء من جنس العمل، وكان أمر الله قدرا مقدورا.

 

لذلك ليراجع كل منا نفسه إذا تعسرت  وادلهمت عليه  الأمور، وليستغفر الله كثيرا    ((إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ)) (يوسف: من الآية23)