أثر خُلُقِ العفو في صيانة المجتمع من الاقتتال والفتنة

أثر خُلُقِ العفو في صيانة المجتمع من الاقتتال والفتنة

 أثر خُلُقِ العفو في صيانة المجتمع من الاقتتال والفتنة

أ.م.د. محمد محسن راضي

جامعة الأنبار / كلية العلوم الإسلامية

    لاشكَّ أنَّ المجتمع الذي وضع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ أُسسه وبناه في المدينة يُعدُّ مجتمعاً متميزاً يندر تكراره مرة أخرى، ولكن مع ذلك فهو ليس مجتمعاً ملائكياً، بل يبقى مجتمعاً بشريَّاً؛ لا سيما وأنَّه لم يكن خاصَّاً بالمؤمنين وحدهم، فهناك المسلمون بمختلف مستوياتهم في قوة الإيمان، وهناك اليهود من أهل الكتاب، وكذلك المنافقون؛ لذا يطالعنا التاريخ بجملة من الحوادث التي تعكس هذا التنوع، ومن ذلك الحديث الذي يرويه جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، فيقول: ((كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ فِي غَزَاةٍ، فَكَسَعَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، رَجُلاً مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: يَا لَلْأَنْصَارِ، وَقَالَ الْمُهَاجِرِيُّ: يَا لَلْمُهَاجِرِينَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ: مَا بَالُ دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ؟! قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ كَسَعَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، رَجُلاً مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ: َدعُوهَا، فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ، فَسَمِعَهَا عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيٍّ فَقَالَ: قَدْ فَعَلُوهَا؟! وَاللهِ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ، قَالَ عُمَرُ: دَعْنِي أَضْرِبُ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ، فَقَالَ: دَعْهُ، لَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّداً يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ))، (متفق عليه)، و"كَسَعَ"، بسين مخففة مهملة أي ضرب دبره وعجيزته بيد أو رجل أو سيف وغيره. (ينظر: شرح النووي على مسلم، 16/137. فتح الباري، 6/546).

 

    يمكن في ضوء هذا الحديث أن نُميِّز صورتين اثنتين للوقوف على أثر خُلُقِ العفو في صيانة المجتمع من الاقتتال والفتنة:

الأولى: الفتنة التي أوشكت على الوقوع بين المهاجرين والأنصار:

    فهذا التداعي بين الأنصاري والمهاجري أوشك أن يُوقع فتنة تعصف بالمجتمع الإسلامي في المدينة المنورة، فجاء الخطاب من الطرفين تحريضيَّاً داعياً إلى الانتصار بالقوم العشيرة، فكيف كان الخطاب الموُجَّه إزاء هذه الحادثة؟

الخطوة الأولى: تمثلت في بيان أصل هذه الدعوة وجذورها: ((مَا بَالُ دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ؟!))، فهي دعوة جاهلية؛ لأنَّ أهل الجاهلية اعتادوا على أخذ حقوقهم بالعصبات والقبائل، والانتصار لبعضهم البعض بصرف النظر عن تقصي حقيقة الأمر وتمييز الظالم مِمَنْ وقع عليه الظلم، وهذا يتعارض مع ما أصبح عليه المجتمع بعد الدخول في الإسلام، فقد أبطل ذلك كلَّه، وأمر بالرجوع إلى القضاء، وفصل النزاعات بمقتضى حكم الشرع. (ينظر: شرح النووي على مسلم، 16/137. فتح الباري، 6/546).

 

الخطوة الثانية: النهي عن مثل هذه الدعوة، ووصفها وصفاً تصويرياً بشعاً: ((دَعُوهَا.. فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ))، أي: قبيحة كريهة خبيثة، (ينظر: شرح النووي على مسلم، 16/138. فتح الباري، 8/649). فهنا للسامع أن يتخيل ريحاً منتنة تنبعث من شيء، فماذا يفعل؟ لا شك أنَّه سيبتعد عنه، ويتجنب كل ما يقرب هذه الريح المنتنة إلى منخره.

 

    ولولا رحمة الله تعالى، ثُمَّ سرعة مبادرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ لوأد الفتنة، لاستجاب الطرفان لهذه الدعوة ولكانت معركة تقوِّض بناء هذا المجتمع الإسلامي.

 

    إنَّ المجتمع مهما بلغ من الرُّقي فإنَّ ثَمَّة أفراد تبقى فيهم رواسب الحياة الماضية، تطفو بين الفينة والأخرى، فليس من الحكمة أن يُستوقف الناس عند كل زلة وهفوة، إذ لا يخفى ما في ذلك من حرج وتنفير لهم، بل يُكتفى بالعفو والصفح، والنصح العام والتحذير من هذه التصرفات، وهذا ما فعله رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ ، فلم يطلب المتنازعَيْنِ للتأنيب والتعنيف والعقوبة بسبب ما وقع منهما، بل صفح عنهما، وحذّر من مغبة إحياء العادات الجاهلية والدعوة لها، وأكَّد على الابتعاد عنها كما ينأى الإنسان عن الريح المنتنة.

 

أما الصورة الثانية: فهي موقف النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ من المنافقين:

    أحياناً لا يكون الغرض المقصود من العفو والمغفرة هو الشخص نفسه ولكن المجتمع ككل، فقد وقعت في المدينة أحداث عدة كان وراءها المنافقون، ومنها ما جاء في هذا الحديث، فقد حاول رأس النفاق عبد الله بن أُبَيٍّ بن سلول استغلال الموقف فاستعمل خطاباً يؤجج نار الفتنة: (قد فعلوها؟! والله لئن رجعنا إلى المدينة لَيُخْرِجَنَّ الأعزُّ منها الأذل)، فكلامه وإن كان في ظاهره مُوجَّهاً إلى المُهاجرين ووصفهم بالذِّلة، إلا أنَّ حقيقة قصده كان الإسلام ككل وفي مقدمة ذلك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ - أعزه الله ورفع ذكره - بدليل ما جاء في رواية أخرى أنَّ أبنه عبد الله بن عبد الله بن أُبَيِّ بن سلول، قال له: (والله لا تنقلب حتى تُقِرَّ أنَّك الذليل، ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ العزيز، ففعل). (رواه الترمذي).

 

    وتكررت تجاوزات المنافقين في مناسبات عدة، ولكن على الرغم من ذلك نجد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ لم يأذن بقتلهم، ولم يُعْلِم بهم إلا نفراً مخصوصاً من الصحابة رضي الله عنهم، ولم تُهيمن عليه حساسية الموقف، بل نجده غلَّب جانب العفو والصفح، وإن كان على الصعيد الدنيوي فحسب، بما كان له الأثر البالغ في صيانة المجتمع من الاقتتال والفتنة، فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ: ((لَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّداً يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ))؛ لأنَّ الناس لها الظاهر فتحكم به، فهؤلاء جزء من المجتمع الإسلامي، والظاهر أنَّهم مسلمون، فراعى الخطاب بُنية المجمع المسلم؛ لأنَّ مجتمعاً يقوم قائده بتصفية المحسوبين عليه، لن يكون أنموذجاً تتطلع إليه البشرية للانعتاق من ربقة العبودية وقيود الظلم والاضطهاد.

 

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين