المنهج النبوي في دفع الفساد الجسديّ

المنهج النبوي في دفع الفساد الجسديّ

 مقال بعنوان : المنهج النبوي في دفع الفساد الجسديّ:

أ.د علاء كامل عبد الرزاق

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وبعد:

هذا المقال هو النَّوعُ الثاني من أنواعِ الفسادِ الأخلاقيِّ، ويعدُّ متمِّماً لسابقِهِ أعني به الفساد الروحي، فكلُّ أذىً يلحقُ الفردَ أو المجتمعَ بشكلٍ ظاهرٍ، وبسببِ أعمالٍ تصدر من الإنسانِ من الجوارحِ فهو فسادٌ جسديٌّ، والناظرُ إلى أنَّ عامَّةَ موجباتِ العذابِ في الأقوامِ السابقةِ كانت بسببِ هذا النوعِ من الفسادِ.

وله صورٌ وأشكالٌ، مثلُ: الزِّنا، والتَّحرشِ الجنسيِّ، وتَعاطي المُخدَّراتِ، والظُّلمِ، والغشِّ، والقتلِ، وغيرِها من أمراضِ الجسدِ.

وهيَ آفاتٌ خطيرةٌ تصيبُ المجتمعَ وتهوي بهِ في الهاويةِ والتخلُّفِ، بسببِ انحطاطِ أبنائِهِ، وتفشو فيه الأمراضَ الجسديةِ عقوبةً من اللهِ، والجزاءُ من جنسِ العملِ، عن عبدِ اللَّهِ بنِ عُمرَ، قالَ: أقبلَ عَلَينا رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فقالَ: " يا مَعشَرَ المهاجرينَ خمسٌ إذا ابتُليتُم بِهنَّ، وأعوذُ باللَّهِ أن تُدرِكُوهُنَّ: لَم تَظْهَرِ الفاحشةُ في قومٍ قطُّ حتَّى يُعلِنوا بها، إلَّا فَشا فيهمُ الطَّاعونُ والأوجاعُ الَّتي لَم تَكُن مَضَت في أسلَافهمُ الَّذين مَضَوا ..... " (سنن ابن ماجه).

إنَّ الراعي مسؤولٌ عن رعيَّتِه، سواءٌ في بيتِهِ أو محلِّ عملِهِ، وإنَّهُ ليحزنُ حينما يرى فساداً جسديَّاً يصيبُ رعيَّتَهُ خوفاً عليهم من عذابِ الله وعقابِهِ، وله في ذلكَ سلفٌ، عن عُقبةَ بن الحارثِ: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بِنُعَيْمانَ، أو بابنِ نُعَيْمانَ، وهو سَكرانُ، فَشَقَّ عَلَيهِ، وأمرَ من في البيتِ أن يَضربوه، فَضَرَبوه بالجَريدِ والنِّعالِ، وكنتُ فيمَن ضَرَبَهُ. (صحيح البخاري).

وليس هذا فحسب، بل نهى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مَن ضربَ شاربَ الخمرِ أن يلعنَهُ، وقالَ لهم بعدما سمعَ أحدَهم يقولُ لُه: أخزاكَ اللَّه، قالَ: " لا تقولوا هكذا، لا تُعينوا عليه الشَّيطانَ " (صحيح البخاري).

وتابعَ صلى الله عليه وسلم علاجَ هذا النوعِ من الفسادِ بعدَ أن نالَ الجاني الحدَّ الشَّرعي، طلبَ منهم أن يؤنبوه على فعلتِهِ – وهو تأنيب الضمير – فقالَ لأصحابِهِ: " بَكِّتُوهُ ". فأقْبَلوا عليه يقولون: ما اتَّقَيْتَ اللَّهَ، ما خَشيتَ اللَّهَ، وما اسْتَحْيَيتَ من رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم ، ثمَّ أرْسَلوه، وقالَ في آخرِهِ: " وَلكن قولوا: اللَّهُمَّ اغفِرْ لَهُ، اللَّهُمَّ ارحَمهُ " وبَعضُهُم يَزيدُ الكَلِمةَ ونَحوَها. (سنن أبي داود).

إنَّ هذه الطريقةَ في معالجة الخطأ لهي من أكثرِ الطُّرقِ نجاحاً في القضاءِ على الفسادِ الجسديِّ، فبعد أنْ ثبتَ أنَّه اقترفَ الذَّنبَ وقدْ حُذِّرَ منه مراراً وأنه يستوجبُ العقوبةَ والحدَّ عليه، بدأ بأسلوبِ العلاجِ وهو الضَّربُ وقد شقَّ عليه ذلك، ولكن لا بدَّ من تأديبِهِ، ولمْ يقمْ هو بنفسه صلى الله عليه وسلم كي يكون رادعاً للبقية الذين انهالوا على المسيءِ بالضربِ لعلهم إن اقترفوا ذلك الجرمَ سينالُهُم مثلُ ما أصابَ صاحبَهم، ثمَّ نهاهم أن يلعنوه أو يشتموه وهو أسلوبٌ أدبيٌّ نفسيٌّ عظيمٌ، مُعلِّلاً ذلك بأن لا يُعينوا عليه الشيطانَ، فمعالجةُ الخطأ لا يكونُ بالخطأ. وإنما بالصوابِ وهو أن يدعو له بالمغفرةِ والرحمةِ والهدايةِ ونحوِ ذلك، ثمَّ تدرَّج أسلوب العلاجِ بقولهِ: " بكِّتوه " عتاباً وتأنيباً للضميرِ.

إنَّ المنهجَ النبويَّ في معالجةِ هذا النوعُ من الفسادِ لمْ يقتصر على ذلكَ، بل تعداهُ إلى مواجهةِ المسيءِ بنفسِ الأسلوبِ الذي أقدمَ عليه ولكن بأسلوبِ الإقناعِ عن طريقِ فتحِ باب المحاورةِ والتنظيرِ؛ عن أبي أُمامةَ قال: إنَّ فتًى شابًّا أتى النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسولَ اللَّهِ، ائْذَنْ لي بالزِّنا، فأقْبلَ القَومُ عَلَيهِ فَزَجَروه وقالوا: مَهْ. مَهْ. فقال: " ادْنُهْ، فدنا مِنه قَريباً ". قال: فَجلس قال: " أتُحِبُّهُ لأُمِّكَ؟" قالَ: لا. واللَّه جَعَلَني اللَّهُ فِداءَكَ. قال: " ولا النَّاسُ يُحبُّونَه لأُمَّهاتِهِم ". قال: " أفَتُحبُّهُ لابْنَتِكَ؟ " قال: لا. واللَّهِ يا رسولَ اللَّهِ جَعلني اللَّهُ فِداءَكَ قالَ: " ولا النَّاسُ يُحبُّونَهُ لِبناتِهم ". قال: " أفَتُحبُّه لأُخْتِكَ؟ " قال: لا. واللَّهِ جَعَلني اللَّهُ فِداءَكَ. قال: " ولا النَّاسُ يُحبُّونه لأخَواتِهم ". قال: " أفَتُحبُّهُ لِعَمَّتِكَ؟ " قال: لا. واللَّهِ جَعلني اللَّهُ فِداءَكَ. قال: " ولا النَّاسُ يُحبُّونَه لِعمَّاتِهم ". قال: " أفَتُحِبُّهُ لِخالَتِكَ؟ " قال: لا. واللَّهِ جَعلني اللَّهُ فِداءَكَ. قال: " ولا النَّاسُ يُحبُّونَه لِخالاتِهم ". قال: فَوَضَعَ يدَه عليهِ وقالَ: " اللَّهُمَّ اغفِرْ ذَنبَه وطَهِّرْ قَلبَه، وحَصِّن فَرْجَه " فَلَم يَكُن بَعدُ ذلكَ الفَتى يَلتَفِتُ إلى شَيءٍ. (مسند أحمد).

إن في هذه الحادثةِ من الدروسِ ما يلي:

-      دعوةٌ إلى العفةِ عنِ الحرامِ.

-      تحريمُ إشاعةِ الفاحشةِ بين المؤمنين بكلِّ وسيلةٍ، سواءَ أكان ذلك بالدعوةِ إلى الفُجور والدِّعاية له، أم بنَشرِ الصُّور العاريةِ أو شبهِ العاريةِ في المجلاتِ أو على شبكةِ الإنترنت، أو الجوَّالاتِ، أو أشرطةِ الفيديو، أو الأقراصِ المدمجةِ (cd).

-      ينبغي على الداعي إلى اللهِ تعالى أن يحرِصَ على هدايةِ الناسِ، ويتحلى بالرِّفقِ مع من أراد المعصية، ويحرص على هدايته، ولا ينفِّره من طريق الله تعالى، وإنْ دعا له بالهدايةِ والصلاحِ فهو أحسنُ وأولى من الدعاء عليه بالسوءِ، ولعلَّه يقرِّبه إلى ربه، ويشعره بحرص الداعي عليه، ورغبته في هدايته.

هكذا نجدُ المنهجَ النَّبويَّ في معالجةِ الفسادِ الجسديِّ تمثَّلَ بالحكمةِ والموعظةِ الحسنةِ والمجادلةِ ومن ثَمَّ العقوبةُ وتأنيبُ الضميرِ، ثمَّ الدعاءُ لهُ بالهدايةِ والمغفرةِ وعدمُ تركِهِ وإهمالِهِ للشيطانِ وأعوانِهِ، فشياطينُ الإنسِ والجنِّ ترحبُ بهِ في أي لحظةٍ وتفتحُ له أبوابَ الضلالةِ. وما أكثرهم اليوم في مجتمعاتنا ولا حول ولا قوةَ إلا بالله.