الصيام .. وإرادة التغيير

الصيام .. وإرادة التغيير

 الصيام .. وإرادة التغيير:

أ.د. احمد عبيد جاسم

الحمد لله رب العالمين والصلاة واتم التسليم على خاتم النبيين وعلى اله وصحبه الغر الميامين وبعد:

فمن القوانين الثابتة، والمناهج الراشدة التي جاء به الكتاب الحكيم على طريق بناء المجتمع السوي، ودعم أركانه، وتثبيت قواعده، قانون التغيير، والتغيير في المنهج الإِسلامي ليس مجرد حركة آلية عشوائية، تسيرها الظروف والملابسات، وتوجهها الأهواء والشهوات، ويحكم حركتها منطق يسود قوةً وغلبًا بالحق أو الباطل، وإنما هو طريق واضحة المعالم، على حافتيها الهوى والمغريات، تنتهي بمسالكها إلى غاية لا ريب فيها هي سعادة الدنيا وفلاح الآخرة، وقد جاء هذا القانون الخالد في قول رب العالمين: ?إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ? سورة الرعد آية:11، فنجد الآية التي اذاعت قانون التغيير وسلطت الضوء على التغيير من الداخل،  فمن داخل النفس يبدأ التغيير وعندما تتغير النفوس صوب الحق الواضح، واليقين الصادق، والتوحيد الخالص، والشريعة الهادية يتغير كل شيء، يتغير الأفراد، وتتغير الأسر، ويتغير المجتمع صوب الحق والعدل، ويعلو بنيان الفضيلة ويترسخ هرم الشريعة، وعبادة الصيام التي فرضها رب العالمين في شهر رمضان تؤدي دورًا فعالاً على طريق هذا التغيير إذ هي تركز على أمرين: الأول: أن التغيير ممكن، والآخر: أن التغيير واقع.

إن أهداف الصيام وفي مقدمتها الارتباط الوثيق بالسلوك الأخلاقي الرشيد تعدّ لونًا من التغيير في واقعنا الاجتماعي.

وكذلك الانشغال في قراءة القرآن الكريم ومدارسته، فهناك علاقة وطيدة بين الصيام والقرآن قال تعالى: ?شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيْ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْءَانُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَـ?ـتٍ مِّنَ الْهُدَى? وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ? سورة البقرة آية: 72. كما كان ليل المجتمع المسلم في رمضان ذا صبغة متميزة، وكل هذه صور من التغيير.

الصيام المثمر:

ففي أول رضمان صامه أصحاب العصر الشريف والمجتمع الفاضل فرضت عليهم أول معركة في تاريخ الدعوة الإسلامية، إذ انتهت بنصر عظيم حتى سمى القرآن يومها يوم الفرقان، وقضوا بقية رمضان في النصر العظيم، ومشاعره الحلوة، شاكرين لله أنعمه، وفي نهاية رمضان عاش المسلمون أول عيد في تاريخ الإسلام، بديلاً من أعياد الجاهلية، ولهوها وأعرافها الباطلة، كل هذه التغييرات وقعت في أول رمضان صامه المسلمون،

 فالصيام إذن عبادة بناءة، تبنى العقيدة الصحيحة بالتقوى، وتبنى الفرد المسلم باليقين والإخلاص، والعزيمة المؤثرة، وتبنى المجتمع بالخلق الفاضل، وتحول أمل الإخاء والمساواة إلى واقع، والقادر على الصوم لابد أن يقدر على العمل المنتج، ومن يستطيع ان يكبح جماح شهواته فله من القدرة على الانطلاق بها نحو بناء الخير والفضيلة، وهذا هو التحدي الذي يواجبه أمتنا.

إنها تريد الخلاص من هوان بالغ، ومذلة طاغية، وفرقة طاحنة، وهي تعيش في أحلام مجد غارب، حضارة إنسانية تتلمذت في رحابها الحضارات المعاصرة وتراث حافل بكنوز العلم، وجواهر المعرفة، وكانت لها مهابة في المشارق والمغارب حتى إن الخليفة المعتصم خرج بجيش عظيم خارج حدود الدولة الإسلامية من أجل أن ينتصر لامرأة صرخت في وجه طغيان الرومان فقالت: وا معتصماه !.

     فهل إلى استعادة هذا كله من سبيل؟

     إني أقول إن أمةً عرفت عبادة الصيام، حتى أصبح الصوم جزءًا من سلوكها السنوي، ومنهاجًا يتربى في ظلالة الفرد القوي، ويتكون المجتمع الصالح – لا ينبغي لها أن تسأل هذا السؤال لأن من عرف الصيام عرف السبيل إلى التغيير.

والصيام مثل لإمكان التغيير فلا بد أن نغير ما بأنفسنا حتى يغير الله لنا واقعنا إلى الصورة التي نتمناها ونرجوها.

     المقولات الإسلامية في الكتاب العزيز، والسنة الصحيحة تؤكد هذه المهمة التي تؤديها عبادة الصيام.

     من ذلك قوله تعالى:

     ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ? سورة البقرة آية: 183، 184.

     فمهمة الصوم كما تحددها الآية الكريمة ماثلة فيما يرجى من ورائها من آثار تربوية تغير في سلوك الإنسان المسلم ألوانًا من الانحراف، وتتجه به نحو تقوى الله عز وجل، وهذا التغيير في السلوك الفكري هو المنطلق القوي لكل تغيير في سلوك الأفراد والجماعات، ويؤكد النبي عليه الصلاة والسلام مهمة الصيام في تغيير السلوك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من لم يدع قول الزور والعمل به، ‌فليس ‌لله ‌حاجة ‌في ‌أن ‌يدع ‌طعامه ‌وشرابه)[1]، وهذ الحديث النبوي الشريف فيه دلالة واضحة تشير إلى أن الصوم لابد أن يغير من السلوك الأخلاقي، وإذا لم يتم هذا فلا قيمة للتغييرات المادية المرتبطة بمواقيت الطعام والشراب؛ بل نجد الرسول عليه الصلاة والسلام، ينصح المسلم بأن يضع نصب عينيه هذا التغيير، ويذكر به نفسه إن غفلت عنه.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الصيام جنة، إذا كان أحدكم صائما، فلا يرفث ولا يجهل، ‌فإن ‌امرؤ ‌قاتله ‌أو ‌شاتمه، فليقل إني صائم، إني صائم)[2]، فكأن هذه العبارة: "إني صائم" في الحديث الشريف، شعار للتغيير يواجه به المسلم نفسه إذا انحرفت أو حادث.

     وكان ليل رسول الله عليه الصلاة والسلام في رمضان ليل متميز، فيه من السلوك الإسلامي ما ليس في غيره من ليالي الشهور الأخرى، فعن ابن عباس ر     ضي الله عنهما: قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير، وكان ‌أجود ‌ما ‌يكون ‌في ‌رمضان، حين يلقاه جبريل، وكان جبريل عليه السلام يلقاه كل ليلة في رمضان حتى ينسلخ، يعرض عليه النبي صلى الله عليه وسلم القرآن: فإذا لقيه جبريل عليه السلام، كان أجود بالخير من الريح المرسلة)[3].

من هنا نستطيع أن نقول بإن الصيام يربي في الإنسان المسلم القدرة على تغيير ذاته ويربي في المجتمع الاسلامي القدرة على تغيير واقعه، وإن وراء عبادة الصيام عزيمة ماضيةً ذات عطاء واسع الحدود متى توافر في الصائم الصدق وتحقق الإخلاص.

فهل لنا أن نستفيد من دروس الصيام، ومن الآثار النبوية التربوية لرمضان فنكون في صيامنا صادقين مخلصين.

 

 



[1] صحيح الامام البخاري:3/26، برقم:1903،(باب من لم يدع قول الزور والعمل به في الصوم).

[2]  مسند ابي داود:4/44، برقم:2363،( باب الغيبة للصائم).

[3] صحيح الامام البخاري:3/26، برقم:1902،(باب أجود ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يكون في رمضان).