رمضان وحدة الشعوب
رمضان وحدة الشعوب
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله الاطهار وصحابة الاخيار، وبعد:
فإن لكل الأفعال حقيقتين ظاهرة وباطنة فجاء الصيام ليحقق التوافق المتزامن لكل منهما؛ لأنه التمثل الفريد لشهادة الجوارح على القلب فتتفاوت بذلك درجات الصيام بقدر تحقيق هذا التوافق بين الفعل والشعور، يقول الإمام الغزالي-رحمه الله-: الصيام على مراتب ثلاثة: صوم العموم وهو كف البطن والفرج عن قضاء الشهوة.
وصوم الخصوص: وهو كف السمع والبصر واللسان واليد والرجل وسائر الجوارح عن الاثام.
وصوم خصوص الخصوص: وهو صوم القلب عن الصفات الدنية والأفكار الدنيوية وكفه عما سوى الله سبحانه وتعالى بالكلية[1].
فالغاية من الصوم هنا كما بينتها الآية القرآنية هي( لعلكم تتقون)، أي: إن الأثر المرجو من الصيام يتجاوز مساحة الامتناع عن الشهوات الجسدية الى صوم الخصوص وخصوص الخصوص، الذي ذكرهما الامام الغزالي، ومن هنا نصل الى التقوى المنشودة، لأن المرء يصوم مختارا وفي الخفاء بينه وبين ربه فلا يشوبُ هذه العبادة ما قد يشوب غيرها من التظاهر أو الرياء.
إن التقوى التي يحققها الصيام هي أيضا ان تسمو به عن بقية الخلائق التي شريعتها معدتها، ومن التقوى التي يحدثها الصيام هي تحقيق الهدوء المجتمعي المتمثل في وحدة الشعوب، فلما يترائى هلال رمضان تنبثق مشاعر الايمان في مشارق الأرض ومغاربها إذ ان الجميع حينها سواء في المشاعر و تتلألئ مشاعر الايمان في عيون وقلوب كل المسلمين، فتتولد الرحمة من الصوم عندما يرحم الجائع الغني الجائع الفقير، فيهزم الصوم الماديات والفوارق التي سادت في جو الحضارة المادية التي تؤمن بالحياة العاجلة ولا تكترث باليوم الاخر، فهم يتنكرون أو يستغربون وقد يكرهون عبادة تقيد الشهوات ولو الى حين وتؤدب البدن المدلل ومن هنا تأتي خصوصية الصيام عما سواه من العبادات فلا شيء يحرض المرء على ترك غرائزه الحيوانية الا تلك العبادة التي تتناول الذات بالمجاهدة والتهذيب فتحول بين البدن والمعدة، ليرتفع صوت الروح بعد الجوع.
إن الصيام كفريضة تعبدية لم يفرض لنيل الاجر في الاخرة فقط، وإنما لصلاح امره في الحياة الدنيا، الذي يدربهم على الصراع الأكبر بين الخير والشر والحلال والحرام، فالانسان يصبح انسانا صالحا في الحظة التي تقاوم فيها ما ترغب وتتحمل فيها ما تكره، يقول ابن القيم-رحمه الله- في ذلك: لما كان المقصود من الصيام حبس النفس عن الشهوات، وفطامها عن المألوفات، وتعديل قوتها الشهوانية، لتستعد لطلب ما فيه غاية سعادتها ونعيمها، وقبول ما تزكو به مما فيه حياتها الأبدية، ويكسر الجوع والظمأ من حدتها وسورتها، ويذكرها بحال الأكباد الجائعة من المساكين، وتضيق مجاري الشيطان من العبد بتضييق مجاري الطعام والشراب، وتحبس قوى الأعضاء عن استرسالها لحكم الطبيعة فيما يضرها في معاشها ومعادها، ويسكن كل عضو منها وكل قوة عن جماحه وتلجم بلجامه، فهو لجام المتقين، وجنة المحاربين، ورياضة الأبرار والمقربين، وهو لرب العالمين من بين سائر الأعمال، فإن الصائم لا يفعل شيئا، وإنما يترك شهوته وطعامه وشرابه من أجل معبوده، فهو ترك محبوبات النفس وتلذذاتها إيثارا لمحبة الله ومرضاته، وهو سر بين العبد وربه لا يطلع عليه سواه، والعباد قد يطلعون منه على ترك المفطرات الظاهرة، وأما كونه ترك طعامه وشرابه وشهوته من أجل معبوده، فهو أمر لا يطلع عليه بشر، وذلك حقيقة الصوم[2].
فالصوم يروض النفس على القليل الكافي، ويصدها عن الكثير المؤذي، وان من اهم ثمرات الصيام تنشيط صفة الرحمة فترى المسلمين يتنافسون في فعل الخيرات وهذا ما يلحق بالأنانية والمادية هزيمة نكراء، فيوطد أواصر الارتباط بين افراد المجتمع من خلال اجتماع الناس على الصوم بأنواعه التي ذكرها الامام الغزالي، لنذهب الى مجتمع مثالي يغلب عليه الشعور بالآخر والاحساس بمعاناته ومحاولة اسعافه لذلك كان في رمضان منافذ كثيرة لفعل الخير مثل إفطار الصائم في لوحة تكافلية جعلت الثواب يتماثل بين الصائم ومن كان سببا في اطعامه، وكذلك تشريع زكاة الفطر فتتقوى مظاهر روح الجماعة الواحدة فيصبح الصوم التزاما اجتماعيا يجمع بين النسك والسعادة والثواب المشترك، فهو وسيلة عملية لصناعة المعروف بين المسلمين.
فيجتمع في الصوم مجاهدة النفس ووحدة الشعور بين الشعوب الإسلامية والانقياد لأوامر رب العالمين، لذلك آيات الصيام بصيغة العموم:(كتب عليكم) (لعلكم تتقون) (ولتكملوا العدة) (ولتكبروا الله على ما هداكم) فرمضان عبادة ربانية توحد الشعوب الإسلامية على اختلاف طبقاتهم.