تعاور حروف الجر في القرآن الكريم مقاربة معيارية

تعاور حروف الجر في القرآن الكريم مقاربة معيارية

 تعاور حروف الجر في القرآن الكريم مقاربة معيارية

أ.د. أثير طارق نعمان

 

ليس مقالي هذا بدعا من الأمر فهو مسبوق بدراسات ثرة، لكنه يسترشد بتلك الدراسات ليستظهر منها مرتكزا في صناعة النحو متخذا من اللسانيات التعليمية معيارا لمنهج البحث والتقصي، ولا مانع من أن ابدأ حديث هنا بسؤال محدد عن نيابة حروف الجر بعضها عن بعض، هل هذه المسألة مطلقة؟ كتب النحو تشير إلى جواز نيابة حروف الجر بعضها عن بعض، وقد بلغَت شواهد هذه الظَّاهرة من الكثرة إلى الحدِّ الذي قال معه ابن هشام الأنصاري: "ولو ذكرتُ أحرف الجرِّ ودخول بعضها تحت بعض في معناه، لجاء من ذلك أمثلة كثيرة"، فهل هذا مضطرد في القرآن الكريم كذلك ؟ فأنا أدرِّس الطلاب على أن النيابة لا تنطبق في حروف الجر في القرآن الكريم قد تنطبق في كلام العرب، ولكن هذا لا ينطبق على آيات القرآن الكريم فوددت أن أشير إلى أن الأصل في حروف الجر أَن يكون لكلِّ حرف منها مكانٌ يحله، ومعنًى يؤدِّيه حين تركيبه مع غيره؛ لأنَّ الحرف بصِفة عامَّة هو ما دلَّ على معنًى في غيره، لكن أمن الممكن أنَّ العرَب تتوسَّع فيها، فتقيم بعضها مقام بعض إذا تقاربَت المعاني، فللنحاة رأيان كبيران، الأول رأي الكوفيين ومن تابعهم من البصريين، والثاني رأي البصريين، فالأول منهما يقول: بالنيابة، ومن البصريين, القائلين به: وابن قتيبة الذي عقد لها بابًا بعنـوان: (باب دخـول بعض الصفـات على بعض), والهروي الذي عقد بابًا مثل ابن قتيبة في ذلك بعنوان (باب دخول حروف الخفض بعضها مكان بعض).

أمّا رأي المحققين من نحاة البصرة فلا يقولون بذلك إلا نادراً فلا يقولون أن حروف الجر يقع بعضها مكان بعض، وهذا ظاهرُ كلام سيبويه، وعليه أكثر النُّحاة، وبه قال بعض المحدثين، وهؤلاء قاسوا حروفَ الجرِّ على أحرف النَّصب والجزم، فكما لا يَجوز في هذه الحروف أن ينوب بعضها عن بعض، كذلك لا يَجوز في حروف الجرِّ أن يحدث تناوب، فإن ورد ما أَوْهم خلاف ذلك، فهؤلاء يرون أنَّ الحرف لايخرج عن معناه الحقيقي, وما ورد مما ظاهره خلاف ذلك فإن لهم فيه أربعة توجهات :

الأول: فهو مؤوَّل؛ إمَّا على التضمين، وهو أن يُضَمّن الفِعْلُ مَعْنَى فِعْلٍ يَتَعَدّى بذلك الحرف ؛ أي يُذكر فعل ويذكر معه حرف جر يتعلق بفعل آخر، فيقدر فعل يتعدى بحرف الجر المذكور في الجملة نفسها فتتكون الدلالة من اجتماع فعلين في فعل واحد كقوله تعالى: {وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} [الأنبياء:77] فالكوفيون يقولون: إن (من) هنا بمعنى (على)؛ لأن نصر لا يتعدى بـ  (من)، أما على قول البصريين فـ (ونصرناه) هنا معناه (نجيناه)؛ لأن (من) تتعلق مع (نجّى): {وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ} [الأنبياء:88] فالنصر اكتسب معنيين النصر والنجاة.

الثاني: أن يؤول المعنى تأويلاً يقبله اللفظ :ففي قوله تعالى: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} .يقول ابن عصفور: لا حجّة لهم في ذلك؛ لأنَّ الجذوع قد صارت لهم بمعنى المكان؛ لاستقرارهم فيها.

الثالث: أن يكون على إضمار محذوف ففي قول بعض النُّحاة إنَّ (على) تكون بمعنى (الباء) في قول العرب: (اركب على اسم الله) أي: (باسم الله (يقول ابن عصفور: لا حجّة لهم في ذلك؛ لأنّ(على) يُحْتَمَلُ أنْ تكون متعلقة بمحذوف, ويكون المجرور في موضع الحال, كأنّه قال: اركبْ متَّكِلاً على اسم الله.

الأخير: أنّ يخرّج الحرف الذي جاء على معنى حرف آخر على الشُّذوذ.

وحين تنظر إلى المسألة في ضوء أطر اللسانيات التعليمية تجد أنه يفضي إلى غير قضيَّة، فهو بابٌ يمسك النُّحاةُ منه بطرَف، وأهل البيان بطرف آخر؛ لأنَّه بابٌ يُسَلَّطُ فيه النَّظر على المبنى والمعنى، والنظر فيه عمل من أعمال العقل، تنقدح الحقائق للنَّاظر فيه بعد طول تأمل وإمعان نظر، وقد وصف ابنُ القيم من يقولون بنيابة الحروف بعضها مكان بعض بـ (ظاهرية النحاة)، الذين لا يسبرون أغوار المعاني، وانتصر للبصريِّين ومذهبهم، حتى أطلق عليهم (فقهاء العربية)، وقد حاول ابن جنِّي أن يتوسَّط، فقال: "ولسنا ندفع أن يكون ذلك كما قالوا - أي: الكوفيون - لكنَّا نقول: إنَّه يكون بمعناه في موضع دون موضِع على حسب الأحوال الدَّاعية إليه والمسوغة له، فأمَّا في كل موضع وعلى كل حال، فلا؛ ألا ترى أنَّك إن أخذتَ بظاهر هذا القول لزمك أن تقول: (سرت إلى زيد) وأنت تريد (معه).؟ وأن تقول: (زيد في الفرس) وأنت تريد عليه".

والذي يلوح لي أنه لا يمكن أن يقال: بتناوُب الحروف في كلِّ حال، وإنَّما يقتصر فيه على المسموع، وعلى هذا فما ذهب إليه ابنُ جني هو عين مذهب البصريين، ومن هنا جاء الخلل الذي دخل على بعض الذين ساروا على مذهب الكوفيين وهو عدم فهمهم لحقيقة القياس في مسألة تعاور حروف الجر، إذ يرون أن قول الكوفيين بالتناوب معناه جواز التناوب مطلقا دون تقيد بسماع، وهذا خطأ مرده أن القياس عندهم هو مجيء المهمل قياسا على المستعمل، فما ينسب إلى الكوفيين من قولهم بتناوب حروف الجر معناه في المعيار اللساني أن هذا قد يحصل أحيانا بالسماع عن العرب، وليس أن ذلك مقيس لكل أحد أن ينيب أي حرف شاء عن أي حرف شاء.

أما رأي البصريين الذين قالوا بالتضمين، وبنوا عليه جواز استعمال حرف جر مكان آخر إذا كان الفعل مضمنا معنى آخر، فالمقصود من كلامهم أننا إذا سمعنا في كلام العرب تعدية غير معروفة للحروف، فإننا نحملها على معنى بلاغي من تضمين فعل لفعل، أو نذهب بها إلى تأويل يتناسب والتركيب الذي وردت فيه بدلا من أن نقول بجواز التعدية بالحرفين، وبدلا من أن نرد السماع الصحيح، فالبصريون أرادوا أن يطردوا كلامهم في جريان الأبواب على سنن واحد، فأصلوا الأصول بناءً على المسموع الكثير في كلام العرب، وردوا القليل إلى هذا الكثير، فكلا الظاهرتين باب واسع في العربية تدلان على نظام العربية القائم على الترابط والمشابهة وتعلق الكلم بعضه برقاب بعض ويفسّر كثيراً من ظواهر العدول والأساليب، وبعضه خفي يشترط أعمال الفكر والتأمل ويحوي أسرارا بيانية ومعاني ثانية دقيقة تشمل ظواهر لغوية عدة، وإنْ الأخذ بظاهر قول الكوفيين غفلاً فيه خلط في المعاني وترك للقياس الصحيح الذي تنتهجه اللغات، والقول بالمنع المطلق يؤدي إلى التكلُّف في تخريج كثير من الشواهد, إمّا بالتأويل, أو القول بالتضمين, أو إضمار محذوف, أو الحكم بالشذوذ الذي لا مبرر له، فهي في مجملها مسألة معجمية تندرج في بحث دلالات الألفاظ على وجه مباين للوجه أو الوجوه التي رسمها السلف، لذلك قالوا إن السياق يحدد معنى اللفظ، ذلك أنه يحمل إلى معانٍ عديدة بسبب نظام العربية ومرونته، قال ابن جني في "باب في استعمال الحروف بعضها مكان بعض": "هذا باب يتلقاه الناس مغسولاً ساذجاً من الصنعة وما أبعد الصواب عنه وأوقفه دونه"، فتراهم يقولون إن (إلى) تكون بمعنى (مع) و (في) بمعنى (على) ويحتجون بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ}.  قال ابن جني: "ولسنا ندفع أن يكون ذلك كما قالوا لكنا نقول أنه يكون بمعناه في موضع دون موضع، على حسب الأحوال الداعية إليه والمسوغة له" وقال "واعلم أن الفعل إذا كان بمعنى فعل آخر وكان أحدهما يتعدى بحرف، والآخر بآخر فإن العرب قد تتسع فتوقع أحد الحرفين موقع صاحبه إيذاناً بأن هذا النحل في معنى ذلك (الفعل) كقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ}، والأصل رفث بها أو منها لأن الرفث بمعنى الإفضاء الذي يتعدى بـ (إلى).

فلا يمكن أن يقع الحرف موقع غيره من الحروف من غير ضابط قائم على قياس صحيح، يمسك بالدلالة وإلا صار الأمر ضرباً من العجمة وعدم البيان وفوضى التعبير، فالمسألة لا تعدو أن تكون بيانية فنية إبداعية خاصة بالنص ومرتبطة بالسياق، على صلة وثيقة بالمعنى، وليست شكلية، لذلك نسبوا البحث عن دلالات معاني الحروف وتردد هذه المعاني بين أصلية أو فرعية لعمل وتوجيه الإعراب الذي شرطه العام الإبانة.

وحين نصل إلى منحى كل من المدرستين الكوفية والبصرية فإن القول الحق يدلنا على أن نظام العربية يفسر لنا هذه الظاهرة تفسيراً واضحاً من غير افتراضات فالتضمين اتساع في المعنى، يتحقق بتوافر المناسبة بين الفعلين ووجود قرينة يؤمن عليها اللبس كما ذهب مجمع اللغة المصري، وأما تناوب حروف الجر بعضها عن بعض فباب واسع كما مرّ بنا في منهج النحاة وتقديراتهم والفارق كبير بين أن ننظر إلى هذه الظاهر كما شاع عن نحاة الكوفة الذين يرون أن حرف الجر لا معنى له أصلا بذاته إنما يتحدد من السياق الذي يرد فيه فلا ضير عندهم أن يقع بعضها موقع بعض، أو في إطارها المعياري المنطقي ومعالجتها لها في ضوء نظام العدول الذي يدل على معنى دقيق ثاني تصنعه النيابة بالاشتراك مع السياق.