قراءة في ظاهرة تقطيع الحديث واختصاره وتكراره عند الإمام البخاري في الجامع الصحيح

قراءة في ظاهرة تقطيع الحديث واختصاره وتكراره عند الإمام البخاري في الجامع الصحيح

 قراءة في ظاهرة تقطيع الحديث واختصاره وتكراره عند الإمام البخاري في الجامع الصحيح

  ا. د ادريس عسكر حسن العيساوي

الحمد لله رب العالمين ، وافضل الصلاة واتم التسليم على المبعوث رحمة للعالمين  ، وعلى اله الطيبين ، وصحابته الغر الميامين.

اما بعد:

فمن الموضوعات التي اثيرت على الجامع الصحيح من قبل بعض المتعالمين والمغرضين : ظاهرة تقطيع الحديث واختصاره  وتكراره، وعدوا هذا الصنيع مثلبة تدفع لعدم الطمأنية والثقة بصحة الاحاديث.

وهذا من غريب افكهم ، وشنيع صنعهم ، الذي يدلل على حقدهم وجهلهم بفسلفة الامام البخاري رحمه الله تعالى في الجامع الصحيح ؛ ولو انهم نظروا بعين الانصاف الى ظاهرة تقطيع الحديث واختصاره وتكراره في ابواب هذا السفر لعلموا عظيم هذا الصنيع ، وبديع مراميه ،  وغزير فوائده وجميل معانيه الا ان الاحكام المسبقة ، والاغراض المشبوهة حرمتهم من تلمس هذه الفرائد العزيزة ، والنكت الطيفة . لذا سنقف مع كلام الحافظ ابي الفضل محمد بن طاهر المقدسي الذي نقله الحافظ ابن حجر في هدى الساري وهو يبين سبب تقطيع الحديث واختصاره وتكراره في الجامع الصحيح حيث قال: اعلم ان البخاري رحمه الله كان يذكر الحديث في كتابه في مواضع ويستدل به في كل باب باسناد اخر ، ويستخرج منه بحسن استنباطه ، وغزارة فقهه معنى يقتضيه الباب الذي اخرجه فيه ، وقلما يورد حديثاً في موضعين باسناد واحد ، ولفظ واحد ، وانما يورده من طريق لمعان نذكرها ثم ساق رحمه الله تعالى جملة من الفوائد:

منها : ان يخرج الحديث عن صحابي ثم يورده عن صحابي اخر ، والمقصود اخراج الحديث عن حد الغرابة ، وكذلك يفعل في بقية الطبقات.

ومنها : ان الرواة اختلفت عباراتهم فحدث راو بحديث فيه كلمة تحتمل معنى ، وحدث به اخر فعبر عن تلك الكلمة بعينها بعبارة اخرى تحتمل معنى اخر ، فيورده بطرقه اذا صحت على شرطه ، ويفرد لكل لفظة بابا مفردا.

ومنها : احاديث زاد فيها بعض الرواة رجلا في الاسناد ، ونقصه بعضهم فيوردها على الوجهين.

ومنها: انه ربما اورد حديثا عنعنه راويه ، فيورده من طريق اخرى مصرحا فيه بالسماع على ما عرف من طريقته في اشتراط ثبوت اللقاء في المعنعن...فهذا جميعه فيما يتعلق باعادة المتن الواحد في موضع اخر او اكثر.

ثم قال رحمه الله تعالى: واما تقطيعه للحديث في الابواب تارة واقتصاره منه على بعضه اخرى  ، فذلك لانه ان كان المتن قصيرا او مرتبطا بعضه ببعض وقد اشتمل على حكمين فصاعدا فانه يعيده بحسب ذلك مراعيا مع ذلك عدم اخلائه من فائدة حديثية كايراده عن شيخ سوى الشيخ الذي اخرجه عنه قبل ذلك...فان كان المتن مشتملا على جمل متعددة لا تعلق لاحداهما بالاخرى فانه يخرج كل جملة منها في باب مستقل فرارا من التطويل وربما نشط فساقه بتمامه.

واما اقتصاره على بعض المتن ثم يذكر الباقي في موضع اخر فانه لا يقع له ذلك في الغالب الا حيث يكون المحذوف موقوفا على الصحابي ، وفيه شيء قد يحكم برفعه فيقتصر على الجملة التي يحكم لها بالرفع ويحذف الباقي لانه لا تعلق له بموضوع كتابه. كما وقع له في حديث هزيل بن شرحبيل عن  عبدالله بن مسعود رصي الله عنه قال : ان اهل الاسلام لا يسبون وان اهل الجاهلية كانوا يسبون هكذا اورده ، وهو مختصر من حديث موقوف اوله: جاء رجل الى ابن مسعود فقال اني اعتقت عبدا لي سائبة فمات وترك مالا ولم يدع وارثا فقال ابن مسعود : ان اهل الاسلام لا يسبون وان اهل الجاهلية كانوا يسبون فانت ولي نعمته فلك ميراثه فان تأثمت وتحرجت في شيء فنحن نقبله منك ونجعله في بيت المال.

فاقتصر البخاري على ما يعطي حكم الرفع من هذا الحديث الموقوف..لانه يستدعي بعمومه النقل عن صاحب الشرع لذلك الحكم واختصر الباقي لانه ليس من موضوع كتابه.

فهل يدرك المتعالمون هذه الفلسفة الرائعة في تقطيع الحديث وتكراره واختصاره في الجامع الصحيح ؟!  ام ان غشاوة الحقد اعمت عين بصيرتهم ، والبستهم ثوب الجهل؟! فلم يروا هذه المسائل الدقيقة ، والشوارد الفريدة.