منهج التغيير في الفكر الإسلامي
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا ضال له ومن يضلل فلا هادي له واشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له ، واشهد أن محمداً عبده ورسوله r .
أما بعد ...
فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد رسول الله r وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالةٍ في النار.
اختار مقالي تحت عنوان ( منهج التغيير في الفكر الاسلامي ) والذي بدوره سيكون عبارة عن سلسة من المقالات يكمل بعضها بعضاً، لما لهذا الموضوع من صفةٍ لصيقة في المجتمع الاسلامي وأنماط التفكير ومواكبة التطور الهائل في هذا الزمن، علماً أن هذا الباب قد ولجه كثير من علماء المسلمين ومفكريهم وليس لي فضل في هذه المادة الا أني قد دلوت بدلوي من نميرهم الرقراق الله أسأل أن ينفع بها ويجعلها خالصةً لوجهه الكريم، فلقد أرق المسلمون قديماً وحديثاً ما هم عليه من تأخر وتخلف وهم على الدين الحق – طبعاً على ما فيه من مخالفات – وما وصل اليه الغرب من مَدَنيةٍ وتطور وتقدم على ما هم عليه من باطل وضلال، فتشعب المفكرون ومن ادعى الاصلاح شعوباً وقبائل للحوق ببهرجة تلكم المدنية وذلكم التحضر الزائف المزعوم، والمفرغ من أبسط أشكال القيم والمبادئ، فأعلنها بعضهم صراحة باستيراد المنهج الذي ساروا عليه ليصلوا إلى ما وصلوا إليه، وما ذاك إلا تحقيقاً لقول النبي r الذي لا ينطق عن الهوى: ((لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه)) . قلنا يا رسول الله اليهود والنصارى ؟ قال (( فمن ))؟!
فيما انتهجت طائفة أخرى مساراً قد يظنه ظان لأول وهلة أنه أفضل من سابقه، وهو قولبة المنهج الاسلامي من خلال صهره ثم صبه في إطار مجتلب ليكون فضفاضاً بحيث يحتمل أدخال ما يراد ادخاله معه، فيكون ظاهرها إسلامياً وباطنها غير ذلك، ليخرجوا لنا مبادئ هجينة قد تكون في أحسن حالاتها ترياقاً لمعضلة ما ولفترة محدودة، وما ذاك بالتغيير المنشود، بل هو تشبه، ومسكن آلام يزول أثره بزوال تأثيره، وهذا النهج أخطر من سابقه؛ لأنه سيشكل على بعض مراهقي التفكير، بل وسيشوش على القيم الاخلاقية التي ركز عليها الاسلام، فكانت الحركة الأولى تشبهاً لا تغييراً، فيما كانت الحركة الثانية أدهى وأمرَّ، لما فيها من دس السم في العسل، متناسين قوله تعالى ) وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(.
وهنا يتبادر سؤال إذا كان كلٌ مما سبق ليس تغييراً، فما هو إذن التغيير، ليأتي الجواب بأن التغيير: هو الانتقال من واقع مرفوض إلى أمل منشود بفترة زمنية معتمداً على أصول ثابتة.
لقد فهم الصحابة -رضي الله عنهم جميعاً- هذا المبدأ فجسدوه على أرض الواقع فهذا عمر -رضي الله عنه- يقول : (نحن قوم اعزنا الله بالإسلام فمهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله) نعم إنه الاسلام عقيدة واضحة، واحكام شرعية ، إنه الاسلام ككل شعائر تعبدية وأخرى تعاملية، محجةٌ بيضاء ظاهرها كباطنها لا يزيغ عنها إلا هالك، حتى أضحت عاداتهم عبادات، وحتى اللقمة يرفعها الى فيِّ زوجه عبادة، وفي بضع أحدهم عبادة، أما نحن اليوم لعدم فهم ديننا الفهم الصحيح، فعباداتنا عادات نصلي فنكبر ونركع ونسجد بأجسادنا، ولما تكبر وتركع وتسجد قلوبنا، نقرأ القرآن لكن بلفظٍ دون معنى، فلا تدبر ولا تفكر ولا موعظة ولا اعتبار والله يقول : )أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا(، لقد حولنا الدين وتعاليمه من علم يطبق كواقع عملي الى نظريات لا تمد للواقع بصلة، وشيئاً فشيئاً اتسعت تلك الفجوة بين العلم والعمل فوصلنا الى ما وصلنا إليه اليوم، ألم يَعبْ الله على الشعراء بأنهم يقولون ما لا يفعلون، وهو ما يعانيه اليوم مجتمعنا الاسلامي، فيحث ديننا على الصدق والامانة والفضيلة ووو... الخ، لكن أين أثر ذلك على أرض الواقع ترى الغش في تعاملاتنا والكذب وسوء الظن والخيانة، فلا حكم للشريعة علينا، ولا أثر للعقيدة فينا، ولا عبادة تترك سمتها على وجوهنا، فصار الاسلام غريباً عنا وصيرناه نحن كذلك بما كسبت أيدينا، اخرج الامام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة –رضي الله عنه- قال، قال رسول الله r: (( بدأ الاسلام غريباً وسيعود كما بدأ غريباً فطوبى للغرباء)) ، فأصيب العالم الاسلامي بانفصامٍ في الشخصية حيث يعيش واقعاً نظرياً يكاد يقرب من الكمال، فيما يكون واقعه العملي من السوء بمكان ما يندى له الجبين، فيكاد القلب يذوب لذلك من كَمَدٍ، إن كان في القلب إيمانٌ وإسلامُ .
ولنعد إلى التعريف: إذن من التعريف يتبين أن التغيير هو عملية لرصد العلل التي يعاني منها مجتمع ما، ووضع الحلول لها وتطبيقها ضمن فترة زمنية، معتمداً على أصول يسير المُغيِّر عليها، دونما أن يكون له منها حظ الاجتهاد إلا فيما يمكن الاجتهاد فيه، وليس بالاعتماد على أهواء أو أفكار هكذا كيفما جاءت، فليس التغيير هو عد المشاكل والمعضلات بمنأى عن الحلول بل هي كلتا العمليتان معاً ممتزجتان لا تنفتقان عن رتق بعضهما، مع وجود فسحة من الزمن لتأخذ تلك الأدوية تفاعلها الصحيح في جسد الأمة المعلول فيحصل بإذن الله الشفاء التام؛ فالمُغَيِّر له القدرة على رصد العلل ووضع الأدوية الناجعة لها، وإلا فكل واحد من أفراد المجتمع يستطيع عد جملة من المعضلات وما لم يذكره هو ذكره غيره وهكذا ومع ذلك فهم ليسوا مُغَيرِين وإنما من يروم التغيير يجب ان تكون له القدرة على التشخيص ثم وضع الحلول المناسبة لها، ثم أخيراً إنزالها على أرض الواقع غراساً يعجب الزراع نابته، ليغيض به المتشبهين اللاهثين خلف المادية المجردة، فزادهم هذا اللهث تيهاً على ما هم عليه من تيه، لذا قال الصحابة أنهلك وفينا الصالحون.... الحديث؟! فتأمل قولهم الصالحون ولم يقولوا المصلحون، وهذا هو المنهج النبوي الذي سار عليه رسول الله r والصحابة من بعده -رضي الله عنهم جميعاً - ومن اتبعهم بإحسان الى قيام الساعة لذلك سُمِعَ مُعَاوِيَةَ -رضي الله عنه- على المنبر يقول، سمعت رسول الله r يقول: ((لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس))، ومن مواصفات من يريد التغيير أن يكون صادقاً أميناً قوياً، لذا لُقِبَ رسول الله r قبل البعثة بالصادق الامين، وقالت ابنة شعيب لأبيها كما حكى القرآن الكريم ذلك في قوله تعالى : )قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَاأَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ(، ولكي نعلم عِظَمَ المسألة، وما نريد الوصول اليه يجب أن نعرف واقعنا وأين حدث الخلل، إذ هو نقطة البداية لتغييره، وأن نقتنع أننا بأمسِّ الحاجة له، ونهيأ له أسبابه ووسائل، والاستعداد لتقبله في أنفسنا إذ )إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ(، وهذا ما سيكون الحلقة الثانية إن شاء الله تعالى ضمن هذه السلسة.
والحمد لله بدءاً وانتهاءً