| تفاصيل الخبر |
الاستثمار المعرفي
2022-06-21
رئيس قسم تنمية الموارد البشرية / مركز تنمية حوض أعالي الفرات
لقد كرم الله تعالى الإنسان وجعله العنصر الأساس على الأرض بل وأسند إليه عمارتها، وزوده بالأدوات اللازمة التي تُمكنه من أن يكون الخليفة عليها؛ فقال تعالى: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) [البقرة : 30] فمن المعاني الكثيرة التي تفسر لفظ الخليفة هي الإشارة إلى من يتولى عملاً يديره المستَخْلِف مثل الوكيل والوصي، أي جاعلٌ في الأرض مدبراً يعمل ما نريده في الأرض، أو كما جاء في تفسير الطبري: الخليفة من يسكنها ويُعمرها، وهذا الاستخلاف يرتبط ارتباطاً وثيقاً بما سخره الله للإنسان، كما جاء في قوله تعالى: (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ) [الجاثية : 13] وبالتالي فإن هذا التسخير يضع الإنسان أمام مسؤولية كبيرة تتطلب منه التفكر والتدبر لإدارة ما أُسند إليه، والأداة الفاعلة للتدبر هو العقل موضع الاختبار وبوصلة النجاة.
فنجد أن الإنسان وظف العقل ليحصل على المعرفة التي رافقته منذ وجوده على ظهرها، وارتقت به ومعه من مستوياتها البدائية إلى قمة ذروتها الحالية، والمتأمل في التاريخ يجد أن تطور الحضارات وازدهارها كان نتيجةً للمستوى العلمي والمعرفي لشعوبها.
وفي العقود الأخيرة تعاظم هذا الدور الذي تلعبه المعرفة في رقي المجتمعات وتطورها فباتت مورداً أساسياً لاقتصاديات كثير من الدول بالتوازي مع الموارد الطبيعية، فوظفت المعرفة على سبيل المثال في إحداث ثورة في مجال المعلوماتية وتكنولوجيا الاتصالات وغيرها من المجالات، والتي مكنت تلك البلدان من أن تساير النهضة العالمية على الرغم من أن أغلبها لا تمتلك الموارد الطبيعية الكافية.
لقد وضع العلماء عدة تعريفات للمعرفة ومنها أنها "عبارة عن معلومات ممتزجة بالتجربة والحقائق والأحكام والقيم التي يعمل بعضها مع بعض كتركيب فريد يسمح للأفراد والمنظمات لخلق أوضاع جديدة وإدارة التغيير" ومن ذلك برز مفهوم جَعَل من المعرفة أحد أعمدة الاقتصاد، فأُطْلِق عليها "رأس المال المعرفي" والذي يمثل مجموعة القدرات والخبرات والمعرفة لدى العاملين في أي منظمة بحيث يكون هذان العنصران (المعرفة والخبرة) متميزين ولا يوجد نظيرهما لدى منظمة أخرى، وهما بطبيعة الحال يشكلان الموارد الاقتصادية لتلك المنظمة، ووضعوا للأشخاص الذين يمثلون رأس المال المعرفي مميزات:
- المثابرة والإتقان في العمل.
- التمتع بالثقة العالية في العمل.
- الميل إلى تحمل المخاطر في بدء العمل بدرجة كبيرة.
- تقديم الأفكار البناءة بهدف السعي إلى التجديد والإبداع والابتكار.
- الميل إلى المعرفة وعدم الجمود.
فهل تخلو مؤسساتنا من فئات بهذه المميزات؟ يتم استثمار طاقاتهم وتوظيفها لخدمة الصالح العام والارتقاء بحالة الجمود المؤسسي الذي أصبح سمةً وواقعاً مألوفاً يثقل الاقتصاد ويوهن الهمم ويجعل العقول في حالة سكون تعتاده مع مرور الزمن، أم أن المنظمة التعليمية تعجز عن تخريج كفاءات تدير تلك المؤسسات وتستثمر الموارد (لا تبيعها لتأكل)؟ أسئلة نطرحها على أنفسنا وفي ذات الوقت ننظر إلى ما نحن عليه وما أسنده الله تعالى إلينا بعد الإيمان به تعالى من الاستخلاف على الأرض وعمارتها.
فامتلاك الموارد ليس ميّزةً في ظل المتغيرات الحالية وفي ظل تكالب الأمم على الثروات، بل أصبح هدفاً يستقطب الطامعين، ومورداً سهلاً في نظر غير ذوي التخصص، وكذلك فإن تغييب دور العقول والاتكاء على المتغير الذي يخرج من باطن الأرض يذهب بنا إلى إهمال العقل والمعرفة وهي ما ميزنا الله بها عن سائر المخلوقات.
- ابن عاشور، محمد الطاهر: تفسير التحرير والتنوير، الدار التونسية للنشر، تونس، 1984.
- الطبري: جامع البيان عن تأويل آي القرآن، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1994.
- الرابغي، خالد محمد بن محمود: عادات العقل ودافعية الإنجاز، مركز ديبونو لتعليم التفكير، عمان، 2015.
- عامر، عبد الرحمن كساب: رأس المال المعرفي، درا الكتاب للنشر والتوزيع، القاهرة، 2014.
